الخبراء الروس... صندوق الأسرار القاتل

يعرف السوريون جمعيهم هذه الطرفة: يروى أنّ رجلاََ كان يخطب لابنه، فحاول قطع الشك باليقين فيما يتعلق بمستقبله، وأبلغ أهل العروس أنّه في بداية الطريق كي يصبح (خبيراََ روسياََ). يبدو هذا مطمئناََ في داخل الطرفة، لكنّ الواقع مختلف بعض الشيء، حيث يذكر أشخاص تعاملوا حقّا مع الخبراء الروس قصصاََ متباينة لا تخدم كلّها -ولا حتى الجزء الأكبر منها- ذات المعنى الذي تسوقه الطرفة، مع أنّ مهمة الخبير الروسي تبدو «فرصة عمل مضمونة» في سوريا.

لابد هنا من بعض الإنصاف، فالتعبير (خبير روسي) خادع في أصله قليلا. المقصود في الواقع إبان الثمانينات والتسعينات كان (خبيراََ سوفييتياََ)، وهؤلاء قد يكونون قادمين من أيّ جزء من الاتحاد السوفييتي السابق؛ لكنّها عادة تعميم اسم (المنتج الأشهر) على بقية المنتجات المشابهة له، وبالتالي فكل سوفييتي أصبح روسياََ. بل إنّ بعض هؤلاء (الخبراء) كانوا يأتون من بلاد تُعتبر سوريا في ذاك الوقت بلدا متطورا بالمقارنة معها، لكنّهم كانوا جزءاََ من اندماج في مسار إنتاج الدولة الشمولية، والحلف البارد المتذبذب المغلف بشعارات عدم الانحياز التي لا تضمر سوى الانحياز إلى حليف لا يهتم بما تفعله داخليا، طالما أنّك تدعي قبول خديعته الداخلية، وتستنسخ دعايته وشعاراته ومنظماته الشعبية التدجينية البائسة، حتى وإن كانت الحلقة الضيقة داخل نظام حافظ الأسد تعيش رفاهية بطريقة غربية، وترسل أولادها ليدرسوا في فرنسا وبريطانيا، وليس إلى جامعة باتريس لومومبا، وتشتري سيارات ألمانية وإيطالية، وتقصد أطباء مسجلين في البورد الأميركي للعلاج، وتخزن أموالها المنهوبة في مصارف سويسرية... هذه كلّها مجرّد تفاصيل صغيرة لا قيمة لها، طالما أنّ طلبة المدارس، المنتمين قسراََ إلى نسّاخات شوهاء للكومسمول السوفييتي، يصفقون بحرارة كلما ذكر اسم «الاتحاد السوفييتي الصديق» في خطابات رديئة ومكرورة إلى أقصى حدود الملل الوطني، لإحياء سلسلة المناسبات الاحتفالية التي لاتنتهي؛ وطالما أنّ أسطورة أسرار الأجهزة والأسلحة التي لا يعرفها إلّا الخبراء الروس قائمة وعاملة، بحيث يبدو فشل التشغيل إستراتيجية ذكية مقصودة لأسباب لا يعلمها إلّا الله.

بنيت العلاقة مع الخبراء الروس في سوريا كأيّ معطى قسري آخر خلال حكم حافظ الأسد، كانت البروباغندا الرسمية والحزبية والمخابراتية تدفع صورة «الاتحاد السوفييتي الصديق» بوصفه القوة الكاملة سياسياََ وعسكرياََ واقتصادياََ وعلميا، وتنمّط حضورها المتزايد على أنّه قوة خير تقدم بالمجان للشعوب المناضلة ضد الإمبريالية الأمريكية الشريرة والمكلفة والمنتهكة للسيادة.

كان هذا قبل أن ينعطف مفهوم السيادة إثر قيام الثورة وشنّ الحرب عليها، لكن بعدهما، ومع دخول أو كشف وجود (خبراء) آخرين من إيران وحزب الله، بات موقع الروس -وهم روس حقاََ هذه المرة- مختلفاََ ومصحوباََ بهالة تبشيرية وخلاصية، تتولى تفسيرها آلة إعلامية روسية لغايات ما بعد سوريّة، تصوّر القوة الساحقة للتدخل العسكري الروسي على أنّه حدث كاشف لتوازنات دولية جديدة، يتم ترسيخها بمناعة وحصانة الأسلحة الجديدة التي لاتملك أميركا وحلف الناتو حلّاََ لها. ومع ربط التقدم الذي حققه النظام وحلفاؤه الإيرانيون على الأرض بهذا التدخل، وتراجعهم السريع في المواقع التي يتركها الروس لفترات مؤقتة لأسباب خاصة بهم؛ تحوّل صندوق الأسرار في الصواريخ الروسية التي لم تكن تعمل جيداََ إلّا بتدخل الخبراء إلى صندوق إستراتيجيات غير مفهومة، لا تعمل أيضاََ إلّا بتدخل ذات الخبراء.

وفي الجيش، الذي فقد آخر مؤشرات إحساسه بكيانه، الهزيل أساسا، وتحوّل إلى عصابات تُغطى باسمها برامج عمل الإيرانيين والروس؛ تفاقم الإحساس بالثانوية إلى درجة أن داعش نفسها استغلت في آخر لحظات انهيارها هذه الحالة، واقتحمت مطار دير الزور باستخدام بضع كلمات روسية نطقها مقاتلو التنظيم الشيشان، وكانت كافية ليرتعب حرس المطار السوريون، ويتركوا المجموعة الانتحارية تدخل دون أيّ إجراء أمني، وهم الذين يطلقون النار على كل ما يتحرك أمامهم دون تفكير. إنّه الرعب، فالجندي البسيط، الذي لا يعرف أصلاََ في هرمية التراتيب العسكرية المفترضة أين تقع أولوية الاستجابة للأوامر إذا تعارضت أوامر قائده (النظامي) مع أوامر أحد ممثلي المخابرات، سحب موقفه الضعيف هذا ليضع الخبراء الروس في مصاف القيادات غير النظامية، والتي لن ينقذه أحد منها إذا أساءت فهم سلوكه الانضباطي. وبينما يتشدق الشبيحة غير المقاتلين بعصمة التدخل الروسي، وهزائم العالم كله أمامه، في تعزيز استبدالي لخيبة انتمائهم إلى معسكر الأسد الضعيف؛ فهذا العسكري لا يستطيع الرهان على موقف مغاير من قادته السوريين فيما لو طلب من عنصر داعش ما يثبت ادعاء أنّهم خبراء روس.

لكن هذا ليس حال العسكري الذي قتله عناصر داعش بعدما دخلوا المطار وحده، هو يعرف -ربما- أن قائده الأعلى يستدعى إلى موسكو أو قاعدة حميميم ولا يمكنه الرفض، ويمكن تفسير الأمر ببساطة أكبر إذا فهم أنّ المجندين، الذين كانوا على مدى أربعين عاماََ لا ينطقون اسم بلدة القرداحة إلّا همساََ حتى في معرض ذكرها العارض، باتوا إزاء قوة تحمي هذه القرداحة… هل هناك كثير من التجني في القول إنّ قاعدة حميميم هي (ألترا قرداحة) في عقل جندي على محرس؟

لنعد إلى خاتمة أقدم: تردد عام 1982 أن أندروبوف أبلغ الأسد الأب أنه مستعد لإرسال 60 ألف جندي سوفييتي من القوات الخاصة إلى سوريا خلال ساعتين -لا أحد يعرف كيف كان سيفعل ذلك- بعد أن طوّق شارون القوات السورية في لبنان، وبات طريقه إلى دمشق سالكا؛ وقيل أيضاََ إن السوفييت أرسلوا دبابات جديدة أنقذت دمشق بعد أن ترددوا في فتح صندوق أسرار الصواريخ، ما سهّل على الطيران الإسرائيلي سحقها على منصاتها. ولا بد أن يكون الجندي قد سمع أيضاََ أنّ روسيا تحميه الآن بــ(إس 400) وهو لايعرف أين صندوقه السري، فهو لا يعمل ضد أحد، وسيأخذه أصحابه إلى بلادهم ويتركون جندياََ بديلاََ يكرر الرهانات المذعورة لزميله القتيل حول أولويات طلب هويات الداخلين.