الحياة في الموصل بعد تنظيم الدولة الإسلامية (1 من 2)
«علَّمونا كيف نقطع رؤوس البشر»

كاترين كونتس
دير شبيغل/ 14 نيسان
ترجمة مأمون حلبي

لأكثر من عامين سيطر تنظيم الدولة الإسلامية على مدينة الموصل العراقية، بما في ذلك مدارس المدينة. وبما أن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة قد طرد التنظيم من هناك، يواجه معلمو المدينة خياراً صعباً: كيف يمكن إعادة تشكيل ذهنيات أطفال تم تعليمهم القتال والقتل؟

ذات صباح في أواخر شهر آذار كان عشرون طفلاً واقفين بين بيوت مقصوفة وسيارات محترقة أمام مدرسة ابتدائية في أحد شوارع الموصل الشرقية. عندما تسألهم ما الذي تعلموه في المدرسة يتكلمون عن القتل. كان معلمهم ينتمي إلى تنظيم الدولة. «داعش، داعش»، يصرخ الأطفال بأصوات قوية منفعلة، كما لو أن الصوت كان يخفي سراً لا يمكن تصديقه.

تتراوح أعمارهم بين 6 و13 عاماً. كانت حقائب الظهر أكبر مما ينبغي بالنسبة إلى أجسادهم. كانوا ينتعلون صنادل، والثقوب تملأ قمصانهم. تناول بعضهم البيض في ذلك الصباح، وبعضهم الآخر لم يأكله. بينما كانوا ينتظرون فتح بوابة المدرسة كانوا يصرخون ويضحكون. كانت سعادتهم حقيقية، لكن في العمق يمكن للمرء أن يرى الحرب في وجوههم الصغيرة القاسية. عندما حاول التنظيم إقامة دولة بعد سيطرته على الموصل في حزيران 2014 لم يتوقف عند تملكه للأرض والناس، والعقيدة وعَلَم، بل تغلغل أيضاً في كل مناحي الحياة الاجتماعية؛ سيطر على الاقتصاد وأدار النظام القضائي ووضع خططاً تعليمية تناسب منظوراته. منذ تحرير الموصل الشرقية قبل بضعة أسابيع وحتى الآن عاد حوالي 20 ألف طفل إلى المدرسة. ورغم خطر هجمات التنظيم بطائرات دون طيار، عاودت 70 مدرسة من أصل 400 فتح أبوابها. يراد للأمور أن تكون كسابق عهدها في الصفوف المدرسية. لكن أهذا ممكن؟ وماذا كانت تجربة الأطفال هنا في ظل حكم التنظيم؟

عبد، 10 سنوات، يقول: «كثيراً ما كنا نجلس دون فعل شيء. أحياناً يسألنا أحد ما: من أفضل، الجيش العراقي أم الدولة الإسلامية؟ وكنا نزعق عالياً ’الدولة الإسلامية‘». يقول عامر، 9 سنوات: «لقد جعلوا الحيوانات تختفي من كتب علم الأحياء. غابت الأسود. فقط الدولة الإسلامية». ويقول حسن، 12 عاماً: «رموا طفلاً من مبنى مرتفع، وضربوا عمي بزجاجة مكسورة إلى أن انشقت بطنه». أما قيصر، 13 عاماً، فيقول: «علمونا كيف نقطع رؤوس الناس. كنا نتمرن على دمية. كانت أكبر مني بقليل، وهي بملابس عسكرية».

حيٌ يحكمه الخوف

إنها الثامنة صباحاً. يطلق المعلم صافرته فيركض الأطفال إلى مدرسة ابن مروان، وهي مبنى منخفض جَوّفت واجهته ثقوب الرصاص. إن أطل المرء من علٍ على المدرسة فسيرى حجم الدمار الذي ألحقته غارات التحالف بقيادة أميركا بالشوارع المحيطة في مطلع هذا العام. البيوت التي كانت تُعرف بمراكز قيادة التنظيم محترقة. قبل بضعة شهور فقط قطع أتباع التنظيم رؤوس أربعة أشخاص أمام المدرسة وتدحرجت رؤوسهم على مرأى الأطفال. أما الآن، فنسوة محجبات يحملن ماءً من أحد الصنابير إلى بيوتهن، وفتى يبيع سكراً، وآخرون يلعبون الكرة في أرض جرداء من المحتمل أنها ما زالت مزروعة بالألغام. الناس الذين يتحركون هنا يمشون بحذر وتساورهم الشكوك. لا أحد يعرف ما يفكر به جاره، أو كم من أتباع التنظيم مختبئون في البيوت دون أن يميزهم أحد. الحرب في الموصل الشرقية قد تكون أصبحت صامتة، لكنها قائمة.

طوال 18 شهراً حاول التنظيم أن يشكل أفكار الأطفال في مدرسة ابن مروان. كان نظامه التعليمي يتطلب 5 سنوات للتعليم الابتدائي و4 سنوات للمتوسط. كانت لديه وزارة للتعليم. وقد قرر ما يسمى ديوان التعليم ما كان يجب على عشرات الآلاف من معلمي الموصل أن يعلموه لتلاميذهم. بالإضافة إلى التلقين العقائدي للأطفال، كان التنظيم يأتي بهم إلى المساجد ويجمعهم في الشوارع ليعرض لهم فيديوهات قطع الرؤوس. يقول شاكر أحمد، مدير المدرسة: «كانت مدرستي بذرة يراد لدولة يملأها جنون العظمة أن تنمو منها». شاكر، 52 عاماً، رجل ذو لحية بيضاء يحب أن يَحّد من حالة الضياع بنتف شعرية من الحكمة. قاتل في الحرب العراقية الإيرانية، ومنذ 25 عاماً وهو يعمل معلماً. يجلس إلى منضدته وحوله 4 من معلميه على أرائك جديدة وقد استغرقوا في الحديث. يقول شاكر: «لقد أحرقنا الأرائك القديمة في بيوتنا لنحظى بالدفء في الشتاء، كما أحرقنا أحذيتنا وكتبنا».

المعلمة الوحيدة في المدرسة

كيف تسير الأمور بعد رحيل التنظيم؟ يجيب شاكر: «في ظل التنظيم كان لدينا قرابة 100 طالب، لكن معظمهم كانوا يبقون في منازلهم». الآن جميعهم يأتون. قام شاكر بتسجيل 800 طفل في المدرسة، وهو يوزعهم على مجموعات متناوبة؛ معظمهم يمكنهم أن يأتوا إلى المدرسة مرتين أو ثلاثاً فقط كل أسبوع. أرسلت منظمة اليونيسيف دفاتر وأدوات مدرسية. يقول أحد المعلمين: «طوال عامين لم نتلق رواتبنا من بغداد». ويقول معلم آخر: «كنا نعمل أثناء حكم التنظيم لأننا كنا خائفين. أما الآن فنعمل لأن لدينا أملاً للمستقبل». عندما سألت المدير ماذا فعلوا بعد طرد التنظيم قال: «غنينا أغنيات للمرة الأولى بعد زمن طويل. نستطيع أن ندخن من جديد ونستمع إلى الموسيقى ونستخدم الهاتف».

«إننا نغيّر الخطط التعليمية»

كان شاكر ينتظر وصول رجال الدولة الإسلامية بعد اجتياحهم الموصل في صيف 2014. جلس في بيته على طرف المدينة لأنه كان وقت عطلة مدرسية. أخيراً أتى 3 من رجال التنظيم. واحد مصري وآخر أردني، وقدموا أنفسهم بأنهم يعملون مع «وزارة التعليم» التابعة للتنظيم، التي مقرها في مدينة الرقة السورية. كان المشرف التعليمي المستقبلي على الثلاثين مدرسة في منطقة شاكر بصحبة الرجلين. أوضح الرجال للمدير أنهم كانوا يعتمدون على عمله معهم، واتفقوا على عودة معلميه إلى المدرسة. وصل المشرف التعليمي إلى مدرسة ابن مروان، وبدا ودوداً. قال لهم أبو زينب، المشرف التعليمي: «تستطيعون الاستمرار في ظل حكمنا كما من قبل». وزع التنظيم في المدينة خبزاً وكازاً للفقراء وأعطى الأطفال ساعات يد في المساجد. لا أحد كان مرتاباً في البداية. استغرق الأمر شهرين أو ثلاثة قبل أن تتغير اللهجة.

ذات يوم أتى أبو زينب إلى المدرسة ومعه سيف. جعل كل المعلمين يجلسون على كراسي ووضع السيف في الوسط. جلس متصالب الساقين على الكرسي وبدأ حديثه بآيات من القرآن، وتكلم عن دور التنظيم دفاعاً عن الإسلام ومسؤوليته في التصدي للغرب، وقال إن للمعلمين أهمية خاصة لدى «الخلافة». «إنما نغير الخطط التعليمية والكتب». زعم أبو زينب أن الكتب القديمة ممتلئة كفراً وأنه سيوجد تدريب إضافي للمعلمين. «أولئك الذين يقاومون هذا سيموتون».

طالب التنظيم المعلمين بحرق الكتب القديمة. كانت ممتلئة بالشعر والأغاني وبحكايات عن عجائب العراق، ومن بينها ملحمة جلجامش. رموا كل هذا طعماً للنيران. غيّر التنظيم الجغرافية التي في الكتب. أزال الحدود بين سوريا والعراق وجمع أعداد السكان ليعطي الانطباع بإمبراطورية عظمى، ووصف الأكراد والشيعة كجماعات تعارض الإسلام واعتبرهم «كفاراً» يجب أن يُقتلوا. أحلَّ كتب تاريخ جديدة تحوي سِيَر شخصياته القيادية. على العموم، كان في هذه الكتب الكثير من الأدب الديني المبني جزئياً على كتابات من القرن 13.

التفاح المستخدم في تعليم الجمع والطرح اختفى من كتب الرياضيات وحلت محله الدبابات والقنابل اليدوية. إشارة الجمع حل محلها حرف Z لأن الإشارة القديمة كان لها شبه كبير بالصليب المسيحي. كان على الطلاب أن يحسبوا كم قنبلة يستطيع مصنع للتنظيم أن ينتج في مدة معينة. أحد الواجبات في اللغة الإنكليزية كان: «كيف أسأل شخصاً إن كان يستطيع تنظيف سلاحي؟». ألغيت دروس الفن والموسيقى لعدم فائدتها للجهاد. كان على المعلمات تغطية وجوههن بالكامل أثناء الحصة الدراسية. وحددت الأنظمة: ممنوع وضع المكياج والعطور، ممنوع حمل الموبايل، ممنوع التدخين. تم فصل البنين عن البنات، ولم يكن مسموحاً أن يتقابل المعلمون مع المعلمات تحت أي ظرف. يقول المدير: «قتلوا المدير السابق لاتهامه بالجلوس بجوار امرأة في المدرسة». لقد أقام التنظيم حكم إرهاب وحقل ألغام للمعلمين.

دمج تنظيم الدولة عدة مدراس في الموصل لأن مئات الآباء سحبوا أولادهم. لكن التعليم المنزلي كان «حراماً». الأنظمة في مدرسة ابن مروان أصبحت سخيفة بشكل متزايد. يقول أحد المعلمين: «أحياناً كنا نريد أن نضحك، لكنهم كانوا سيقتلوننا على الفور لو فعلنا ذلك».