الحشّاشون

بيع الحشيش المخدر على قارعة الطريق

ليست هناك كلمةٌ لا تخضع للتطوّر والتغيير، وهذا شائعٌ في كلّ اللغات بما فيها اللغة العربية. ولكن المثير للاستغراب أن تجد كلمةً تقفز من المعنى إلى نقيضه، والكلمة المعنيّة هنا هي الحشاشين.

لقد انتشر استخدام (الحشيشة) كنوعٍ من المخدّر (أو المفتّر، كما يسميه العلماء في الماضي) في القرن السادس للهجرة؛ ويقول العلامة القرافي عن متعاطي الحشيشة آنذاك: "تجد آكلي الحشيشة همدة سكون مسيوقين، لو أخذت قماشهم أو سببتهم لم تجد فيهم قوّة البطش". وقد كان المتعاطون يستعملون تلك النبتة (المفتّرة) بمضغها أو شرب منقوعها؛ ولكن تسمية الحشاشين لم تكن تطلق على هؤلاء، بل على الجناح العسكريّ لفرقةٍ دينيةٍ انفصلت عن الفاطميين في القرن الخامس الهجريّ، وأسّست لها دولةً في إيران، ثم انتقلت إلى الدعوة في بلاد الشام. وقد اعتمدت في استراتيجيتها العسكرية على الاغتيالات التي يقوم بها فدائيون لا يأبهون بالموت، مما بثّ الرعب في قلوب المسلمين والصليبيين على حدٍّ سواء، من خلال عملياتهم الدقيقة التي يلجؤون في تنفيذها إلى التخفي، ثم التنفيذ السريع، ثم الانتحار. وربما تحوّل هؤلاء إلى قتلةٍ مأجورين، فقد اغتالوا ملك بيت المقدس (كونراد) بالتعاون مع صلاح الدين الأيوبي، وفي نفس الوقت حاولوا اغتيال صلاح الدين مرّتين؛ مما دفعه إلى النوم في برجٍ خشبيٍّ خشيةً منهم. وقد أجّج الحشّاشون خيال أعدائهم، كما أجّجوا هلعهم بعملياتهم المخيفة، والهالة التي صنعوها لأنفسهم. ووصل تأثيرهم إلى الآداب الأوربية، فكُتبت عنهم أساطير، كما في كتاب الرحالة الإيطالي (ماركو بولو)، ودخلت كلماتٌ جديدةٌ في اللغات الأوربية من وحيهم، مثل assassin، التي تعني القاتل المأجور أو السفاح.
أما اليوم، ورغم بقاء استعمال كلمة الحشّاشين، إلا أن مدلولها تحوّل إلى نقيض مدلولها القديم. فبعد أن كانت تثير الرعب أصبحت اليوم تثير الضحك. لكن الشيء المشترك بين حشّاشي الأمس وحشّاشي اليوم، هو سلبيتهم تجاه المجتمع ورفضهم الاندماج في محيطهم الاجتماعيّ - كلٌّ على طريقته - ومحاولة تغيير الوسط بطرقٍ سحريةٍ غير معقولة، كتغييره بالقوّة وهو أمرٌ مستحيل،
أو تغييره بأحلام اليقظة والهلوسة. وتتعدّد أسباب تلك السلبية بتعدّد الظروف، ولكن العامل الاقتصاديّ يتصدّر تلك الأسباب.
وبالاطلاع على شبكات التواصل على الإنترنت، وسماع النكات و(النهفات) التي يطلقها الشارع، ومقاطع الفيديو التي يتناقلها الشباب على أجهزة الموبايل؛ يمكن للمرء أن يقف على مكانةٍ لافتةٍ يحظى بها الحشاشون، بالنظر إلى استخدامهم كموضوعٍ للضحك والسخرية، لدرجةٍ قد تصل إلى إطلاق صفة المحشّش على كلّ شخصٍ ساذجٍ أو (يخلط ماء وزيت). على أن البعض يستخدم هذه الصفة لمناهضة الوضع القائم، وتوجيه النقد اللاذع من خلالها. وليس سراً اليوم عند الكثير من الحشاشين، أن هذه المادّة لا تسبّب أي إدمانٍ فيزيولوجي، وهذا ما يجعلهم يدّعون مقدرتهم على تركها متى شاؤوا. ولكن ما يخفونه هو أن المادة الفعالة في الجرعة التي يتعاطونها يتناقص تأثيرها مع الزمن، مما يدفعهم إلى زيادة الجرعة، أو، في كثيرٍ من الأحيان، إلى اللجوء لأنواعٍ أشدّ خطورةً بكثير.
ومع تحوّل الثورة السورية إلى السلاح، وجد الكثير من الحياديين ملاذاً في الحشيش، لتناسي الآثار المخيفة التي خلفها البطش العسكري للنظام. وفي ظلّ غياب المؤسسات الحكومية والرقابة الاجتماعية تنشط تجارة المخدرات وتعاطيها، وعلى رأسها الحشيش، بسبب انخفاض سعره وسهولة استخدامه. فضلاً عن الأثرياء الذين يتعاطون الحشيش كنوعٍ من الترفيه (المكيفات).
وقد حاولـــــت بعض الجـــــهات المحسوبة على الثورة مكافحة ظاهرة انتشار تعاطي الحشيش؛ ولكن بنفس الطريقة التي استعملتها أجهزة النظام في السابق، وهي التوجه في الحلّ نحو نتائج هذه الظاهرة، باعتقال المتعاطين ومحاولة تأديبهم، وترك تجار ومروّجي هذه الآفة دون رقيبٍ أو حسيب، بل قد يحظون بحمايةٍ ودعمٍ من نوعٍ ما.
لقد عاد حشّاشو الماضي، ولكن بأسماءٍ أخرى. وعاد اسم الحشاشين، ولكن لأشــــخاصٍ آخــــــرين. فهل من معتـــــبر؟