الفنان أكرم سفّان: أندهش فأُدهِش... أتأثّر فأؤثّر
ما يزال في سوريا رغم أنه يستكشف المساحات المتاحة ليديه في أورفا بتركيا، ويحاول أن يتمدّد فيها بعفويةٍ وحبٍّ، إذ يجد أنه "هنا في قراءة أكبر للأعمال من سوريا"، لكن ابتساماته المقتضبة والودودة تنطفئ حالما يتذكر المأساة. يحمل نفسه الأخرى في جوّاله بعد أن صارت صوراً تعني له الكثير لمنحوتاتٍ عنت له أكثر من ذلك لأشياءٍ تحمل العديد من المعاني التي عاشت في داخله "يحاورها وتحاوره"، إلى أن استجابت المادة الخام وحملت تلك الاشياء عنه.
مسكوناً بأعمالٍ باشر العمل بها ولم ينجزها، وأخرى يريد البدء بها لكنه لم يجد اللحظة المناسبة بعد. هكذا مات، قبل أن يولد، "حوار الحزن مع محمد الماغوط"، بعد أن تحدّث عنه مع الشاعر في أيامه الأخيرة. وكذلك هي "عشتار أكرم تولد من جديد" لكن في مخيلته المنهكة حيث "الحزن زوابيق نتوه فيها" و"البلد الذي يجب أن يحافظ على فنانيه".
مقفلٌ على فنّه، فيحاول أن يقفل فنّه على نفسه. ولا يسمح إلا للشعر أن يدخل إلى ذلك العالم الخاصّ والعامّ، ليؤكّد أنه يترجم القصائد إلى منحوتات، كما يستقبل باهتمامٍ القصائد التي يحاول أصحابها ترجمة منحوتاته إلى كلمات. هذا حاله مع "تعب الطين" و"عقم الأمة".
يحاول أن يخفّف عن نفسه و"يريح رأسه قليلاً" من "الحالة اللاإنسانية" التي عايشها في مدينته دير الزور، لكن تمنعه من ذلك "آلامٌ جميلةٌ" لسنةٍ ونصفٍ قضاها في بيته وورشته الفنية على خطوط الاشتباك قرب حديقة النصارى، حيث أمضى وقته في المشاركة في دفن الضحايا نهاراً والتسلل إلى حيّ الجورة، الواقع تحت سيطرة قوّات النظام، ليلاً للاطمئنان على الحياة هناك. لا يفارقه مشهدٌ اختلط فيه الموت بالحياة عندما كان يسحب جثة امرأةٍ قضت بالقصف ليفاجئه الجنين الذي كانت حاملاً به وقد انسلخ عنها.
يبدو النحت (بأفقه ومتعته وعالمه واختزاله وتكوينه) -بحسب ما يرتّب- أقرب إليه من الرسم، رغم انشغاله بالأخير منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً وإقامته العديد من المعارض. بينما بدأ النحت منذ ستّ سنواتٍ تقريباً، بالصدفة كما يكرّر: "كنت رايح تا أشتري خبز، وشفت قطعة رخام عالطريق تصرخ لرب العالمين". أجرى عليها بعض اللمسات وأعطاها اسمها "استسقاء". منذ ذلك الوقت ويداه تقدّمانه للناس بالنحت كما يقدّم الأكراد أنفسهم بالموسيقى، بحسب قوله.
لا يؤرّقه وضعه الماديّ كثيراً، فقد وضع يده منذ زمنٍ طويلٍ على المفارقة التي يعيشها مع فنه؛ فالعمل الذي قد يدخن عشر علب سجائر لإنجازه قد لا يباع بأكثر من دولارين. على مدى عقدين ونصفٍ تنقّل مع رسوماته ومنحوتاته بين هموم أبناء مدينته إلى مآسي الشعب العراقيّ إلى وجع المواطن السوريّ، وصولاً إلى عجز السوريين ومعاناتهم اليوم. لم تفارقه روح المهمّشين في بلده والمنطقة. وغير بعيدٍ عن ذلك يعمل حالياً في تركيا على تصميم وتنفيذ ديكوراتٍ للمسارح، ويُقبل أتراكٌ على اقتناء منحوتاته وعرضها في المطاعم والكافيتريات.
يجلس متحفزاً مليئاً بالطاقات والشوق لمحاورة المادة الخام، رغم أنها "جميلةٌ دون عمل الفنان"؛ ممتلئاً بما يحدث في سوريا رغم أن "شوارع الغربة أكلتنا"، كما يقول. لكنه يسعى إلى دفع ذلك الهمّ وبثه إلى المادة علها تستطيع اختزاله والاحتفاظ به "وتساعد الانسان بما لا يقدر عليه العلم".
أكرم سفّان الذي يذكّر جلساءه أنه ولد في سنة الهزيمة 1967، ويحذّرهم ممازحاً من الشؤم الذي قد تجلبه مرافقته؛ يحمل اليوم على كاهله الكثير من الهزائم، ابتداءً من انتهاك مدينته وانتهاءً بالحزن الإنسانيّ.