التجويع: إجراءٌ عقابيٌّ أم سياسةٌ منهجية؟

عادةً ما يتمّ في الحروب حصار بعض النقاط العسكرية وقطع الإمدادات المختلفة عنها بقصد تركيعها وفرض الاستسلام عليها، وفي الوقت نفسه يُسمح بإدخال المساعدات الإنسانية والفرق الطبية إليها لنقل المصابين والجرحى. تلك هي أبسط قوانين وأخلاقيات الحروب.

يختلف هذا بالطبع عن ما تشهده سورية وفي أكثر من منطقة، من دير الزور إلى مخيّم اليرموك إلى حمص، وأخيراً وليس آخراً ريف دمشق، وخاصّةً مضايا؛ تلك البلدة الصغيرة بسكانها السبعة عشر ألفاً وما يقاربهم من النازحين، التي تقع إلى الشمال الغربيّ من مدينة دمشق على الحدود اللبنانية، وهي من أوائل البلدات التي ثارت سلمياً ضدّ النظام وطالبت باسقاطه. تشهد مضايا اليوم أبشع حصارٍ قصدُه تمويت وقتل البشر كافةً بلا طلقة، تقوم به قوّات جيش النظام وميليشيات حزب الله المرتبط بمراكز القرار في طهران أكثر من انتمائه اللبنانيّ، والذي يسعى جاهداً إلى ربط مصير الشيعة اللبنانيين والعرب بوليّ الفقيه، معزّزاً دور المذهب على حساب الانتماء الوطنيّ والقوميّ، مقامراً تماماً بمصير تلك الطائفة، عبر بنيةٍ عسكريةٍ فاشيّةٍ معاديةٍ للغير.

وخلال فترة الحصار، التي تخطّت المئتي يوم، تجاوز عدد الشهداء حتى الآن 40 شهيداً، وهو مهدّدٌ بالزيادة يومياً، عدا الأمراض الكثيرة المنتشرة والممهدة للموت الفظيع. ونشاهد جميعاً الصور اليومية على الشاشات وعبر وسائط التواصل الاجتماعيّ، والتي كان أكثرها مأساويةً وفضحاً للضمير العالميّ صورة الطفلة التي تحلم بفطيرة ساخنة، والطفل الذي يستحي من طلب رغيف الخبز............

بهذا الحصار الخانق يسعى النظام، وميليشيا نصر الله برعاية وليّ الفقيه، إلى تحويل مطالب الشعب السوريّ الذي هبّ طلباً لحرّيته وكرامته إلى حالة صراعٍ من أجل حياته وبقائه. إذ صبّت كلّ المناشدات والاعتصامات في الداخل وحول العالم من أجل إدخال المساعدات الإنسانية للمحاصَرين المهدّدين بالموت اليوميّ، في وقتٍ تتضاعف فيه عمليات القصف المرعب وحصد المزيد من الأرواح إضافةً إلى تدمير البيوت وتهجير ساكنيها.

تعتمد الميليشيا الطائفية التجويع -كما اعتمدته سابقاً حركة أمل والنظام السوريّ في حصارهما المخيّمات الفلسطينية في لبنان عام 1987، مما اضطرّ المحاصَرين في الداخل إلى معايشة حالاتٍ مأساويةٍ لاإنسانيةٍ نتيجة نقص الماء والغذاء والكهرباء، وقبلها حصار النظام مخيّم تل الزعتر لأكثر من سبعين يوماً حتى سقط المخيم في 14/8/1976 وبأكثر من 3000 شهيد، واليوم مضايا وقبلها أحياء حمص القديمة- كسياسةٍ ممنهجةٍ من أجل التركيع والرضوخ تحت ضغط العذاب والألم اليوميّ وصرخات الأطفال والأمهات طلباً للقمة خبزٍ أو زجاجة حليبٍ أو حبة دواء. فتلك التنظيمات الطائفية تعادي الوسط المحيط بها كأعداء مفترضين في وقتٍ تتباكى فيه أمام العالم بخوفها من اضطهاد الأكثرية لها، شاكيةً مظلومياتها عبر التاريخ. وبالتالي تعلن وبغباءٍ، علّها تقنع جمهورها، أنها مهدّدةٌ من محيطها -كما فعلت الدعاية الصهيونية ذات يومٍ في توجّهها إلى العالم أنها وسط بحرٍ قد يبتلعها- بينما حقيقتها أنها تنظيماتٌ إرهابيةٌ بمعنى ممارستها ونهجها بقتل المدنيين لتحقيق أهدافٍ لها ولأسيادها في طهران.

وفوق ذلك يسعى هؤلاء الميليشياويون إلى تقديم فعلهم المخزي بأنه حربٌ على الإرهاب، فيصوّرون جميع السوريين الذين ثاروا على نظام الأسد كإرهابيين، وبالتالي يجب قتلهم وبكافة الوسائل، من الرصاص حتى التجويع. ويزعم هؤلاء القتلة اندراج فعلهم هذا في إطار محاربة إسرائيل وأمريكا كقلاعٍ للظلم، في وقتٍ تؤكد فيه الأحداث كلها، من تلّ الزعتر إلى المخيمات الفلسطينية إلى البلدات والمدن السورية، على التغاضي، بل الرضا، الإسرائيليّ والأمريكيّ عما يقومون به. فقد استطاعت الطائرات الأمريكية أن تلقي الغذاء والدواء -والسلاح أيضاً- على المناطق ذات الأغلبية الكردية في العراق وسورية، لأنهم يحاربون تنظيماً إرهابياً (داعش)، بينما ميليشيا "المقاومة" غير إرهابيةٍ، وربما تقاتل "الإرهابيين"!

يسير أتباع وليّ الفقيه والنظام السوريّ على نهج الأخ الأكبر في رواية 1984 لجورج أورويل، حيث الكراهية هي الحب والجهل هو العلم والكذب هو الحقيقة، ليقنعوا أنصارهم أن حصار المدنيين هو المقاومة، وأن قتلهم هو الطريق إلى تحرير فلسطين.

أما السوريون، ومعهم الكثير من اللبنانيين، فيطلبون الحرّية، وسينالوها. حيث لا مكان للحاقدين والظلاميين أولاد التنظيمات الطائفية.