رغم أنّ المرجعية المعلَنة لتنظيم الدولة هي "العمل بالكتاب والسنّة وأقوال السلف"، لكن المرء يجب أن لا يعوِّل على ذلك كثيراً. لوجود خلافاتٍ فكريةٍ داخليةٍ أدّت إلى إعداماتٍ كثيرةٍ قام بها التنظيم ضد قياداتٍ وشرعيين وعناصر لديه بتهمة المغالاة، كما أعلن. ثم إن التيارات أو التنظيمات الإسلامية المنافسة، التي تتخذ المرجعية ذاتها منطلقاً لها، تشكّل تهديداً لتلك الأرضية. بالإضافة إلى الإفتاء الملتبس بالقانون، والذي يختلف من "ولايةٍ" إلى أخرى، ومن شرعيٍّ إلى آخر. كلّ ذلك جعل "التغلّب" (من قويت شوكته وجبت طاعته؛ الأمر الواقع) هو القاعدة الحقيقية التي يقف عليها التنظيم. وهي قاعدةٌ يتقبلها الجميع هنا، ولو على مضضٍ، في الوقت الحاليّ على الأقل.
في البدايات، لم يفكّر المتظاهرون في شرعيةٍ ما (سوى حقّ الشعب؟). وقد يعود ذلك إلى نوعية المتظاهرين، وعدم بروز تأثير القوى الإقليمية، أو المصالح المحلية المتضاربة، على النحو الحاليّ، ووجود وجوهٍ معارِضةٍ مقبولةٍ شعبياً تملأ الفضاء الإعلاميّ، قبل أن تفقد تأثيرها. ثم إنّ أفق الحلّ لم يكن مسدوداً، خاصّةً مع وجود تجارب عربيةٍ قريبةٍ مبشّرةٍ، آنذاك. وبعد الاتجاه إلى العمل العسكريّ، وازدياد عدد الضحايا، وانتشار السلاح، وطول الأمد، وظهور المناطق المحرّرة في دير الزور؛ طرحت مسألة ملء الفراغ السياسيّ نفسها على الثوّار والكتائب والمنظّمات والجمعيات والحاضنة الشعبية. ورغم أنها لم تناقَش صراحةً، لكنها قبعت وراء الكثير من النقاشات والتوترات والاختناقات، بل ربما الاقتتال.
ومع حملة الحرس الجمهوريّ على المدينة، في نهاية 2012، وما حملته من فظائع؛ هرب –انسحب؟- الكثير من مقاتلي الجيش الحرّ والناشطين بشكلٍ جماعيٍّ أو فرديّ (يقدّر إعلاميون محليون عددهم قبل الحملة بعشرة آلاف مقاتل). وبقي منهم ثلاثمائةٍ فقط، مع بعض الناشطين، قرّروا التصدّي للحملة، تحت الحصار الخانق والقصف الجنونيّ. وقد شكّلت هذه القوى، يومها، الهيئة الشرعية والكتيبة الأمنية والمكتب الطبيّ وغيرها. وقد مال هؤلاء، بعد توقف الحملة، إلى التشبث برمزية هذه الفترة لإثبات أحقيةٍ ما. فاستولت فكرة "البقاء أثناء الحملة" على المدينة لمدّةٍ طويلةٍ. إلى أن تناولتها التعليقات الساخرة من مدى سيطرتها والتضخيم الذي أصابها، كما في تشبيه تلك الفترة بقصة فيلم 300 الشهير، الذي حوّلته السخرية الرائجة إلى مليون.
وبعد تشكيل المجلس المحليّ بدأت تظهر، في أحاديث الناشطين والإعلاميين والثوّار، أو فيما تلمّح إليه، أرضياتٌ من نوعٍ آخر. كما في مراحل معينّةٍ من عمر المجلس، حين كان ريف دير الزور كله ينظر إلى المدينة بترقبٍ. إذ ظهرت أصواتٌ مناطقيةٌ متعصّبةٌ لأهالي المدينة، تستند إلى العائلية أو العشائرية (ظهر مثلها –رداً عليها؟- في أكثر من مدينةٍ في عموم المحافظة). كما انتشرت، في المرحلة ذاتها، أفكارٌ تحاول الوصول إلى الهدف نفسه، تستمدّ قوّتها من تأمين "الدعم" أو استجلابه أو أخذ دور الوسيط فيه، فضلاً عن العلاقة بالائتلاف. وقد يكون ذا معنىً أنه، بعد الكوارث التي حلّت بالمدينة، تسري بين الأهالي فكرةٌ مفادها: "اليوم لا يجرؤ أحدٌ على الادّعاء بأنه خرج في المظاهرات، بينما كان كلّ الناس يدّعون أنهم كانوا ضمن (السبعين واحد)". وهو عدد الذين خرجوا في أوّل مظاهرةٍ في دير الزور. ولأنها كانت "اللحظة التأسيسية في الثورة"، إن جاز التعبير، فقد استُغلت كثيراً في غمار البحث عن موطئ قدمٍ في الطريق نحو "التمايز السياسيّ"، الذي يعطي حقّ القرار والأمر.
وبعيداً عن البحث عن تسهيلاتٍ أو تعويضاتٍ محتملة؛ ظهرت في هذه الفترة أو تلك أصواتٌ خافتةٌ (لم تجد لنفسها مظلةً ولا منبراً، كما لم تستطع تنظيم نفسها) تحاول إثبات الاستحقاق والجدارة من طريق استعراض تاريخٍ معيّنٍ، كـالاعتقال أو الإصابة أو خسارة الممتلكات أو سابقة القتال في العراق أو الانشقاق أو التضحية بالوظيفة أو الثقافة، وغيرها. لكن الفكرة التي لاقت انتشاراً شعبياً، بالإضافة إلى قوّة السلاح، ولم تفقد ألقها حتى الآن، هي التضحية بالنفس، أو، كما يعبَّر عنها بالقول: "قدَّموا شهداء".
وقد تجاورت تلك الشرعيات في أحيانٍ كثيرةٍ، وتعايشت، وربما اندمجت أو انقسمت أو تصادمت أحياناً أخرى، في نقاشات وشعارات وتظاهرات واشتباكات أنصار هذا التيار أو ذاك. لكن الملاحظ أنه ليس كلّ من خاض إحدى التجارب السابقة يدّعي الشرعية، لكن الباحثين عن الشرعية يحاولون التشبّث بإحدى التجارب السابقة، وإيقاف الزمن عندها، لتدعيم بناء سلطةٍ ما بالاستناد اليها.