الائتلاف.. لعبة الكراسي الموسيقية «عديمة الفائدة»

اجتماع لإعضاء الائتلاف الوطني السوري في مقر الائتلاف بتركيا في آذار 2019 (الصفحة الرسمية للائتلاف)

يقول الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير؛ والذي تنسب إلى أفكاره كثير من شعارات الثورة الفرنسية إن "أفضل حكومة هي تلك التي يوجد فيها أقل عدد من الأشخاص عديمي الفائدة".

تبدو العبارة شديدة السهولة والاتساق والمنطقية بالطبع.. إذ لا يمكن توقّع حكومة جيّدة مكوّنة من أشخاص "عديمي الفائدة"، لكنّ الواقع اليومي الذي تعايشه معظم شعوب الأرض، هو أنّ جزءاً دائماً من كلّ كيان حكومي أو شبه حكومي -وبتوسيع أكبر- من كلّ كيان يدعي التمثيل السياسي لجماعة بشرية، يكون في الغالب عديم الفائدة، بل وضاراً ومعيقاً لفائدة بقية التركيبة.

لا يعني هذا أنّ عبارة فولتير خاطئة، بل يعني إنّها تشير إلى حدوث مستمر لما تحذّر من حدوثه.

وفي سوريا خصوصاً لدينا تجارب طويلة ومزمنة مع "عديمي الفائدة"، إلى درجة أنّه ومع قيام الثورة عام 2011، انتقلت هذه الخصيصة المربكة تلقائياً لتهيمن على المشهد التمثيلي السياسي للثورة التي كانت وقتذاك في ذروة تفجرها وحيويتها. هل يمكن قلب عبارة الفيلسوف الفرنسي ذائع الصيت لتصبح "إن أسوأ حكومة هي تلك التي يوجد فيها أكبر عدد من الأشخاص عديمي الفائدة"؟.. ربما؛ مع أنّ المنطق يفترض أن يكون العكس هو أنّ تلك الهيئة تكون أفضل كلما كان عدد "المفيدين" فيها كبيراً.

وبالحديث عن "الفائدة" سينحسر التشخيص التحليلي فيما يخص سوريا إلى أبعد مكان ممكن عن حكومات أنظمة حزب البعث منذ عام 1963؛ وبالتحديد نظامي حافظ وبشار الأسد المتناسلين منذ عام 1970. لا فائدة ترتجى هنا، ولا معنى واقعياً للبحث في إمكانية أن يكون ثمّة ما هو قائم على منطق مفيد. لنعد إلى ضفّة الثورة إذاً.

منذ أيام فقط، انتخب السيد أنس العبدة رئيساً للائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة مع طاقم من نواب للرئيس وهيئة سياسية؛ أعادت إنتاج الأسماء ذاتها التي تتبادل مناصب الائتلاف منذ إعلان تأسيسه في تشرين الثاني عام 2012 بالعاصمة القطرية الدوحة.

وكما كان متوقعاً فقد أثار هذا الانتخاب -الخالي من المفاجآت في الحقيقة- سخط الشارع السوري المعارض، وحفلت مواقع التواصل سريعاً بفيض من السخرية والانتقادات اللاذعة والتشكيكات في نزاهة أعضاء الائتلاف. ومع أنّ رد الفعل هذا متوقع أيضاً، فهو يكرر ذات الأداء الاجتماعي منذ سنوات تجاه كل عملية انتخابية داخل الائتلاف.

كان يؤمل في بدايات قيام الثورة السورية أنّ تتمكن قوى المعارضة التقليدية في البلاد من الاستجابة للتحول البنيوي الهائل الذي أطلقته داخل المجتمع السوري، والواقع أنّ تباشير بدائية لاحت في أفق السياسة السورية الخامد مع ظهور خطابات جديدة لبعض القوى -على تباين وجودها الفعلي في الشارع- لكن ومع تأسيس المجلس الوطني السوري عام 2011 ثم تحويله إلى جزء من الائتلاف الأكبر؛ ترهلت الهيئة السياسية التي يفترض أن تكون واجهة لأخطر لحظة عاشتها سوريا في تاريخها الحديث، وتناوشت الشللية والمحسوبيات والولاءات الخارجية أجزاء من هذا الجسم، ليغرق في اعتياد مستمد من الميكانيزمات الشائعة لبلادة السياسة السورية عند النظام، مع الاعتراف أن المقارنة مع النظام ستكون مجحفة بحق أي معارض.

لعبة الكراسي الموسيقية المملة هذه، كانت تحتاج إلى خصوصيات في البنية وفي المناخ السياسي داخل الائتلاف نفسه كي تستقر بلا مشاكل، وبأقل قدر من الصراعات المكشوفة، والسوريون متأكدون طبعاً أنّ ثمة صراعات سرية حامية داخل الائتلاف، يخرج بعضها إلى العلن مع فوران غضب أحدهم، ويبقى جلّها طي الكتمان بانتظار تسويات المحاصصة.

فولتير مجدداً.. الائتلاف بالمفهوم العملاني لجسم سياسي ممثل لثورة عظيمة، ولشعب تعرض إلى كل صروف الإبادة من تحالف شر عماده مليشيات إرهابية، كان "عديم الفائدة" وهو الشق المدني لسردية شتات السلاح وصراعات الفصائل المقاتلة. وهنا يبرز أثر الخصوصيات البنيوية والشكلية لهذا الجسم في إبقائه قائماً وقادراً على ادعاء الحيوية الداخلية عبر ديمقراطية تبادل المواقع.

وصحيح بالطبع أنّ البيئة السياسية الدولية خذلت السوريين، وتحديداً بعد الاتفاق النووي الإيراني والتدخل الروسي المدمر، وهذا ينطبق على عمل الائتلاف وغيره من الهيئات التفاوضية الثورية، إلا أنّ المنطق التسويغي للفشل عبر جعله أفضل الممكن لا يستقيم مع ما يفترضه الالتزام تجاه مليون شهيد ونصف سوريا المهجَّر والمدمر.

هناك موجبات أخلاقية ووطنية تقتضي شفافية نزيهة لم تتوافر يوماً عند الائتلاف، وإضافة إلى هذا هناك أيضاً خصوصية مستجدة، تبدو كتصريف وقح لعملية تجاهل الانتقادات وانحسار التأييد عند القاعدة الشعبية التي يقول الائتلافيون أنهم ممثلوها، والحقيقة أنّ العجز -يبدو متعمداً- في تجديد الوجوه لقيادة الواجهة السياسية للثورة لا يعود فقط إلى الشروط الدولية والإقليمية، بل إلى نزعة استئثار بسلطة غير موجودة فعلاً.

في الثورات والحروب الوطنية الدموية هناك حاجة ملحة دائماً إلى توصيف نفسي للوذمات التي تحيق بالمجتمع على كافة الاتجاهات، ومع أنّ أعضاء هذا التكتل المبني أساساً على مبدأ الإحاطة بكل ما هو متوافر من قوى بصرف النظر عن تجانسها، سيكونون معرضين لذات الوذمات الخفيّة في المجتمع، إلا أنّ إغراء التواجد العنيد في ذات الإطار "غير المفيد" لا يمكن تفسيره بأنه مجرد نضال ذي خط واحد باتجاه إسقاط نظام متوحش.. هناك شيء ذاتي هنا يعود إلى أن القوى المكونة للائتلاف لا تجدد نفسها، وبالتالي لا يمكنها تقديم روافد جديدة لعمله.

دعنا نتصور الأمر كالتالي.. لعبة كراسٍ موسيقية يقوم بها ذات الأشخاص حتى الإنهاك، ومع تزايد بطء حركتهم، تقودهم خصوصية قبول المحاصصة -كحل سهل لكلّ مشكلة تفترض تضارباً في قيمة الكرسي- إلى توزيعات متكررة للجالسين والواقفين والمنتظرين.

لا تعود اللعبة ذاتها هي المعنى لأنها "عديمة الفائدة"، بل الصيغة التي تجعل تجاهل تبرّم الجمهور أمراً ممكناً.
دعونا من فولتير.. يقول هيغل إن "كلّ ما هو حقيقي فهو منطقي، وكلّ ما هو منطقي فهو حقيقي"، ومع أن ثمّة صيغ ترجمة أخرى لهذه العبارة المعقدة، فإنّها جميعها تؤول إلى غرض واحد هو أنّ ما ليس منطقياً لا يمكنه أن يكون حقيقياً.

وفي سوريا، داخلها المدمر وتلك التي علّقها المهجّرون على أكتافهم بين منفى وآخر، لا يوجد ما هو منطقي أكثر من تسخير كل جهد ممكن -بما ذلك التنحي جانباً- لإنهاء حكم آل الأسد، وبناء مستقبل خال من الطغيان ومشتقاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لكنّ واجهات الثورة السياسية وأحدها -وربما أبرزها- ائتلاف قوى الثورة والمعارضة لا يمكنها أنّ تكون حقيقية في الشارع مالم تكن منطقية في كونها تفسّر الذروة السياسية لبيئة ثورية أسستْ شرطاً قد لا يتاح مجدداً قبل انقضاء زمن طويل لهدم "لا منطقية ولا حقيقية" الدولة القاتلة.

لا يمكن أن تكون فاشلاً بإصرار وتتوقع تغييراً.. هذا مستحيل.

والمفارقة هنا أنّ الشارع متقدم بشوط طويل على معارضته، وهذا الشارع يعرف يقيناً أن الفصائل المسلحة التي يحترم بعضها وينعت بعضها الآخر بالإرهاب، لا تملك تقديم السياسة المجدية، لكنه لا يريد واجهات سياسية تعيد إنتاج نفسها كل سنة.

لم تقم الثورة من أجل إنتاج "قيادة قطرية ثورية"... هذا أمر "عديم الفائدة" حقاً