- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
الأيام السود الثقيلة في قرى الشعيطات
«بدي أخلي السواجي تمشي بالدم بدل المي»
وجرت السواقي فعلاً بالدماء في قرى عشيرة الشعيطات مثلما توعد عبد الرزاق عبد الكحيلات، المعروف بـ«أبو علي الشعيطي»، خصومه من أبناء العشيرة الآخرين. وقعت المذبحة وشرّدت العشيرة منذ عامين ونصف وحتى الآن.
بالتدريج البطيء، وعقب نفيٍ طويل، عاد من بقي من الشعيطات إلى ديارهم، فيما نزح أو لجأ ثلاثة أرباع العشيرة تقريباً هرباً من داعش، ليمسي «شارع القهاوي»، وهو السوق الرئيسيّ المزدحم عادةً قبل داعش، شبه خالٍ إلا من مارّةٍ ومتسوقين يقضون شؤونهم بسرعةٍ تحاشياً للمشاكل. وسوى عناصر داعش لا يمكن لأحدٍ أن «يمشي طوله» أو يأخذ راحته في الكلام كما يقول أحمد، وهو بائعٌ سابقٌ في السوق: «أوّلي إذا تبيع تراب ينباع معك وتربح عليه، هسّا ما يشتغل بس الأكل والدوا. وصاحب المحل ما يستجري يكثّر بضاعة خايف لا يتشرّد مرة ثانية». استولت داعش على بضائع المحلات وأثاث البيوت وعدّتها غنائم حرب المرتدين، ما اضطرّ الأهالي إلى البدء من الصفر حين عودتهم.
يحرص التنظيم على إشاعة الرعب بتكثيف المداهمات والاعتقالات بذرائع واهية، حتى أصبح الكثير يحدث نفسه ويراجع ذاكرته ليسأل: «هل أنا مطلوب «للدولة»؟ «حدا مخبّر عني إني حاكي عليهم قبل ما يسيطرون؟ والله ما لي شغل لا بثورة ولا بنظام. معقولة هذول الإسلام الصحيح؟». ولأن «الما يخاف من الله خاف منو» تصبح الطريقة الوحيدة لتفادي المشاكل هي الطاعة العمياء، فتطول اللحى وتقصر الثياب وتلحن الألسنة بمفردات الدواعش، ليصير أصغر عناصرهم «شيخاً» يُستجدى وده.
في أي وقتٍ على الحواجز قد يوقَف المارّ ليُسأل عن اسمه ولقبه ومن أيّ فخذٍ عشائريّ، وهل خضع لدورةٍ شرعيةٍ أم لا. يقول صالح (اسم وهمي): «أول ما كنت أمرّ من الحواجز كان قلبي يدق بسرعة من الخوف، مع إني مو مسوّي شي، بعدين صرت أعبّي موبايلي أناشيد وإصدارات وصرت صحبة مع العناصر، ومرّات ياخذون مقاطع مني». منذ ستة أشهرٍ تقريباً عُيّن علي حسين الديري، الذي يطلق على نفسه لقب «أبو عمر الزبيدي» (40 عاماً) مسؤولاً أمنياً في المنطقة، فصارت الحواجز كابوساً يتحاشاه الناس، خاصةً بعد مقتل ابنه وثلاثةٍ من أشقائه في معارك التنظيم. وقد يدفعه مزاجه المتوحش إلى إطلاق النار أو إهانة المارّة لأتفه الأسباب، مثلما فعل مع شيخٍ مريضٍ تعب من الوقوف الطويل على الحاجز بانتظار أن يسمح له بالعبور، فأسكته بـ«اقعد راحة يا حجي، أحسن ما أقص راسك».
يحاول الناس التكيف وتمرير أيامهم الثقيلة يوماً بيوم، دون أملٍ بفرجٍ قريب. وكلما استقرت الأحوال على نمطٍ من أنماط التعايش أطلق الدواعش حملة ترهيبٍ جديدة، اعتقالاً كانت أم إعداماتٍ علنيةً أو أيّ صنفٍ من صنوف العذاب والقهر اليوميّ الذي يظهر على الوجوه والحركات وفي المفردات المنتقاة بعنايةٍ في كل موقفٍ وحال. حتى أثناء الشجار صار المتشاجرون يحسبون حساب داعش، فخلت صيحاتهم من التعابير الغاضبة التي باتت تقتصر على التهديد بالشكاية إلى شرعيّي التنظيم وحسبته. وفضلاً عن كل هذا تظل آلام المذبحة جاثمةً على الصدور. يقول مصطفى (اسم وهمي): «أمي ما تخلينا ننام، تبكي وتنادي إخواني بأسمائهم بنص الليل. مو مصدقة إنهم ماتوا، مع إنها شافت جثة أخوي وتعرّفت عليه من كلابيته». وبين حينٍ وآخر تصل أنباءٌ كاذبةٌ عن بعض المفقودين أنهم بصحةٍ جيدةٍ وأنهم يسلّمون على أهلهم، يختلقها الدواعش بغاية السمسرة وأخذ الرشى مقابل المساعدة في إطلاق سراحهم. يبشر أبو البراء، وهو مبايعٌ للتنظيم، عجوزاً سألته عن ابنها المفقود: «خالتي لو تنادين بصوتك يسمعونك، تراهم حيل قريبين»، فتفرح الأم المسنّة وتذبح خروفاً بهذه البشرى الكاذبة.
في عهد داعش انقسم مجتمع عشيرة الشعيطات، مثل غيره من المجتمعات في مناطق سيطرة التنظيم، إلى طبقتين؛ الأولى هي عامة الناس الخاضعين دون ممانعةٍ تذكر لقوانين التنظيم وممارسات عناصره المتغطرسة، والثانية هي طبقة المبايعين وذويهم المتملقين لداعش. ويحظى هؤلاء بمعاملةٍ وامتيازاتٍ خاصّةٍ مثل العمل والتنقل –في أراضي داعش- فضلاً عن حمل السلاح وممارسة ما يشاؤون من تسالٍ، كالصيد من نهر الفرات باستعمال الديناميت، والثرثرة على مواقع التواصل الاجتماعيّ على شبكة الإنترنت، وإطلاق النار في الأعراس، وفي أحيانٍ أخرى على الناس كلما غضبوا. مثلما فعل أحد عناصر داعش، ويدعى محمد عبد الرحمن الكركز، عندما أردى رضيعاً في حضن أمه وأصابها بجروحٍ بليغةٍ بحجة مخالفتها للباس الشرعيّ ثم عنادها وشتمها له، وفق ما قال مبرّراً فعله، دون أن يلقى أيّ عقابٍ سوى الإبعاد إلى جبهات القتال.