أكاذيب صدام الجمل... اللص الذي صار أميراً في داعش

يقول مثل شعبي: يمكنك معرفة الكذبة من كبر حجمها، وينطبق هذا المثل تماماً على سلسلة الاعترافات التي بدأت "مؤسسة ناس" بثها تباعاً للقيادي الداعشي (صدام الجمل)، فاللقاء المصور تبدؤه المؤسسة بكذبة، إذ تشير إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب أشاد شخصياً في تغريدة له باعتقال الجمل على أيدي المخابرات العراقية، مع أن عملية الاعتقال أثارت شكوكاً جادة بأنها مفتعلة ونفذت بالاتفاق مع الجمل نفسه.

يبدأ الجمل "سرديته" فارضاً نفسه زعيماً أوحد للعمل الثوري في منطقة البوكمال التي ينتمي إليها، ومن ثم للعمل العسكري؛ على الرغم من اعترافه في الجزء الأول من "اعترافاته" أنه كان سجيناً في بداية الحراك الثوري، والمظاهرات السلمية ضد نظام دمشق، والتي انطلقت فعلياً في مدينة البوكمال أواخر الشهر الثالث عام 2011 "فزعة" لدرعا، حين كان صدام الجمل -أو صدام "الرخيتة" كما تسمى عائلته في البوكمال- سجيناً بسبب أعمال تهريب الدخان التي كان يقوم بها عبر الحدود العراقية السورية.

أما كيف تحوّل ذلك المهرب إلى قائد ثوري؟ وما سبب خروجه وحمله السلاح في مواجهة النظام؟ فهذه أسئلة لا تشغل بال محاوره، الذي يظهر أن جهاز المخابرات العراقية قد كلفه بهذه المهمة، فالمطلوب من خلال سردية (الجمل) هو تصوير الثورة وكأنها عمل همجي، قام به مجموعة من المهربين؛ لذلك فهو لن يمانع أن يقول إن مدينة البوكمال هي مدينة مهربين، وإن بيوتها مليئة بالأسلحة. يقول مثلاً إن خمسة عشر ألف مسلح هبوا في مدينة البوكمال بعد قيام قوات الأمن السوري بقتل ستة من المتظاهرين! لكن الوقائع تقول إن من حمل السلاح في المدينة بعد تلك الحادثة لم يكن عددهم يتجاوز المئة رجل، إذ كان ثمة أصوات تطالب بالإبقاء على سلمية الثورة.

وعن الفترة إياها التي كان فيها الجمل سجيناً، يعود للكلام عن أن المظاهرات كانت سلمية، وأنها كانت تطالب بالحرية وزيادة الرواتب. طبعاً، ولأن "الجمل" يخلط الأمور بعضها ببعض، فيقول مثلاً إن بدء المظاهرات في البوكمال ثم الانتقال للعمل العسكري حدث في أواخر العام 2010 وبدايات العام 2011- فإنه سيلقي أي ترهات يملأ فيها وقت "البرنامج"، ليكتشف أي مشاهد أن هذا الكلام ليس صحيحاً بطبيعة الحال، فالثورة السورية انطلقت في آذار عام 2011.

يقول أيضاً إنه بعد قيام النظام بقتل ستة من أبناء المدينة، حاولت قواته استعادة الهدوء فيها، فلم تقم بأي أعمال تصعيد، مع العلم أن التلفزيون السوري التابع للنظام عرض في الشهر الخامس من العام نفسه تقريراً مصوراً من مدينة البوكمال، يقول فيه إن عصابات إرهابية تعتدي على المقرات الحكومية. والحقيقة أن النظام لم يعمل أبداً على تهدئة الأمور، بل كان يدفعها أكثر فأكثر نحو التصعيد و "شيطنة" الثورة، فلن نستغرب والحال هذه، إن كان إطلاق سراح صدام الجمل، وهو المتهم بأعمال التهريب، ثم بروزه في الصورة لاحقاً حاملاً بندقية كلاشينكوف، قد تم باتفاق مع النظام! كما حدث في مناطق كثيرة، ولعل أمثلة الشيوخ الذين باتوا يسمون بالضفادع خير مثال على ذلك.

أوفد النظام فعلاً بعض المسؤولين من أبناء المنطقة للتفاوض مع أهالي المدينة، وقد استقبلهم عدد من قادة العمل الثوري السلمي، ورفضوا مطالبهم، ولم يكن صدام الجمل واحداً منهم بطبيعة الحال، حسب شهادة أحد الحاضرين، وهنا لا بد أن نسأل المحاور، لماذا لم يستوقف محدثه ليسأله كيف قفز فجأة ليتحول من مجرد متفرج على المظاهرات بسبب الكسور التي كان مصاباً بها -كما قال صدام نفسه- إلى وجه بارز من وجوه العمل الثوري؟ ليس مهماً...

أواخر شهر تموز عام 2011 بدا أن مدينة البوكمال تغلي فعلياً، ولم تعد هادئة، وارتفعت وتيرة العمل المسلح، فكان ثمة كتيبة للجيش الحر هي كتيبة الله أكبر، تضم قرابة مئة وخمسين إلى مئتي عنصر، كان صدام الجمل قد بات أحد قادتها، لكنه سينشق عنها لاحقاً ليشكل "لواء الله أكبر". يقول الجمل خلال اللقاء، إن معظم المقاتلين هم من أبناء عشيرته، ويضيف في موضع آخر من اللقاء أن غالبية مقاتلي كتيبته أو لوائه هم من الحشاشين والعاطلين عن العمل، ويمضي في إقناع المستمع بأن أهالي البوكمال هم تقريباً من عشيرته، وهنا لا بد من القول إن الجمل ينتمي لعائلة صغيرة وفقيرة، ولم تكن ذات شأن كبير في المدينة -كما يوحي حديثه العمومي في أكثر من مكان- فوالده وعمه كانا بائعي خضار بسيطين.

طبعاً هناك أسئلة عديدة من الواجب سؤالها عن حجم الاختراقات التي حدثت في الجيش السوري الحر، إذ سيخبرنا أحد أعضاء المجلس المحلي في البوكمال، أنهم طالبوا بتعيين أحد أبناء المدينة الموثوقين في منصب قائد الجيش الحر في المدينة، لكن ما تسمى بهيئة الأركان رفضت الطلب، وعينت صدام الجمل فيما بعد قائداً للجيش الحر، وهنا بدأ دوره يصعد شيئاً فشيئاً، من خلال أعمال اللصوصية التي كان يقوم بها مع بعض المقربين منه، من بينهم اثنان من أشقائه. وأشهر أعمال اللصوصية التي قامت بها مجموعته سرقة مستودعات مؤسسة الأعلاف في البوكمال، وبيعها لحسابه الشخصي.

سيؤدي ظهور جبهة النصرة بعد ذلك في البوكمال إلى وقوع خلاف بين صدام الجمل ومن معه من جهة، وبين "النصرة" التي كانت تسعى للسيطرة على المدينة من جهة أخرى؛ ثم جاء قتل ثلاثة من أخوته خلال المعارك التي خاضها ضد الجبهة، ليولّد عداءً شديداً لجبهة النصرة وعناصرها. غادر البوكمال بعدها متجهاً إلى مناطق في ريف الحسكة، ليقاتل –مع لوائه- ضمن ما عرف آنذاك بألوية أحفاد الرسول، واتهم بارتكاب جرائم قتل وأعمال نهب وسرقة واسعة في قرى كردية ستكون سبباً في إشعال فتنة عربية كردية في تلك المناطق، أججها لاحقاً تنظيم داعش بعيد بروزه على الساحة.

أواخر العام 2013 بايع الجمل تنظيم داعش، وظهر في شريط فيديو مصور يعلن فيه (توبته) وبيعته للتنظيم، ليصير بعد ذلك أحد قادته البارزين، بسبب نزوعه الدموي، ورغبته بالانتقام من المجتمع الثوري الذي رفضه بسبب سلوكه المشين؛ ثم قاد الجمل في نيسان عام 2014 هجوماً غادراً لداعش على مدينة البوكمال وقتل نحو (70) من عناصر الجيش الحر، بعضهم أعدموا ميدانياً، وقبل أن ينسحب أمام مقاومة كتائب الحر. في تلك الحادثة سهلت -بقصد أو غير قصد- غارات لطيران النظام على مدينة البوكمال هجوم داعش، وكذلك جاء تواطؤ جبهة النصرة مع التنظيم، أو تخاذلها على الأقل عن المشاركة بالتصدي للهجوم. وبعد (3) أشهر فقط ستساهم "النصرة" بتسليم البوكمال لداعش ويبايعه قادتها.

عاد صدام الجمل إلى البوكمال حينذاك، ليبدأ بعمليات الانتقام من جميع أولئك الذين كانوا يقفون في طريقه، وقد اعتقل عدداً كبيراً من أبناء المدينة، ونفذ عدداً من عمليات الإعدام الميداني بحق من يعتبرهم أعداءه… وسوف يُعرَف صدام عمر الرخيتة -لاحقاً- باسم أبي عبيدة الأنصاري أحد أخطر قياديي تنظيم داعش، الذي تقول المخابرات العراقية إن لديها أدلة تثبت بأنه هو من قام بإحراق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، بالإضافة إلى عشرات الجرائم والمجازر التي ارتكبها... لكن الحقيقة أن اللقاء الذي تواصل "مؤسسة ناس" نشره على حلقات، قد يضلل البعض ويوحي بأن صدام الجمل قائد ثوري ثم "جهادي" أسير، لكن أهل البوكمال لن يروا الجمل إلا كما كانوا يرونه دائماً كمهرب ولص وقاتل.