- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
أعيش قدري وأساعد الناس.. شهادة أحد الناجين من حويجة كاطع بدير الزور
شهادة خاصة لعين المدينة
منذ منتصف تشرين الأول لعام 2017، وحتى قبل نهاية العام بأيام، ظل مصير مئات المدنيين من ديرالزور مجهولاَ، كانوا بصحبة مقاتلين من تنظيم الدولة الإسلامية، وآخرين محليين كانوا ضمن فصائل الجيش الحر فيما مضى، أو اضطروا لحمل السلاح للدفاع عن أنفسهم بوجه الهجوم الذي شنته قوات النظام والميليشيات المرافقة في ذلك الوقت، فأجبرت الجميع على التحصن في جزيرة نهرية صغيرة في نهر الفرات (حويجة كاطع) شمال المدينة، أُطلقت الكثير من النداءات المحلية والدولية لتجنيبهم مصيراَ أسود على أيدي القوات المهاجمة. وبعيداَ عن المفاوضات التي تمت للبت بمصير المحاصرين، فإن الرواية التي يسردها لعين المدينة أحد المدنيين الذي عايشوا تلك الفترة، تأتي أهميتها كتأريخ اجتماعي لذلك الحدث. وقد فضلت هيئة التحرير الإبقاء على المصطلحات التي استعملها الشاهد، والحكايا التي لخص بها لسان حال المحاصرين، وتحفظت على كل ما يشير له للحفاظ على سلامته، بينما تدخلت في بعض المواضع بتعقيبات للإيضاح.
في اللحظات الأخيرة صار البحث عن الخلاص همّ الكثيرين، كنت أستطيع الهروب، يقول الشاهد، لأني كنت أخرج من المدينة باستمرار، لكني دخلت المدينة. بينما هرب مقاتلون ومبايعون بأكبر قدر من المكاسب. في بعض الظروف ندمت على دخولي، لكني كنت أحمد الله أني أعيش قدري، وأساعد الناس.
عندما سقطت أحياء العمال والمطار القديم والصناعة وحويجة صكر بأيدي النظام، انتقل المقاتلون من عناصر الدولة وأبناء البلد إلى حي العرفي، ومن هناك انتشر مقاتلو الدولة في الأحياء في محاولة لعرقلة الهجوم، ومنح فرصة لانسحاب المدنيين، الذين توجهوا إلى أحياء الحميدية والشيخ ياسين والعرضي. في تلك الأثناء «كنا نوزع الأكل بالليل» بسبب الطيران، فهناك حملتان متزامنتان للطائرات، واحدة لقصف الجبهات، والثانية للأحياء الداخلية المتبقية، أما القصف فيبدأ في الرابعة صباحاَ، ويستمر حتى الثانية عشرة ليلاَ، مع براميل متفجرة تسقطها خمس مروحيات تجوب السماء، وينقض الطيران الحربي على مكان سقوط البرميل مسترشداَ بالدخان المتصاعد، بينما صواريخ النابالم لا تنقطع، وطيران الاستطلاع يراقب الطرقات لرصدنا أثناء تنقلنا.
الانسحاب من المدينة
طفتُ أثناءها مع بعض الشبان في الحارات لنقل كل من تبقى إلى حي الجبيلة، كان رد البعض «نحن نستنا النظام»، بينما انتقل معنا القسم الأكبر. في الجبيلة كان القصف هيستيرياً، لأن المساحة المستهدفة كانت تضيق مع الأيام و الانسحاب التدريجي. كنا نبقى في الحي يومين أو ثلاثة، نخلي خلالها المدنيين، ثم يتبعنا المقاتلون. «قبلها جاء الأمر لمقاتلي الدولة بالانحياز ونحن في الجبيلة» يقاطعه صديقه المقاتل في الحر، قبل أن يبايع التنظيم، لكن «المقاتلين من أبناء البلد رفضوا وأبلغوا القيادات أنهم باقون». هكذا انسحب قادة وعناصر مهاجرون، وغادر الأمير الإداري للمدينة (أبو جمال الساحلي) حي الجبيلة إلى خارج المدينة، يكمل الشاهد، بعد أن أخلى عناصره مستودعات السلاح، وسلموا للباقين في المدينة سيارات محملة بالذخيرة، «أناتر سلاح» يعقب المقاتل. ثم اقتنع بعدها الباقون بالانسحاب تدريجياَ باتجاه شارع سينما فؤاد، ثم الرديسات فحي الرشدية، ثم تسللوا إلى حي الحويقة -الجزيرة النهرية الأكبر في ديرالزور- ليلاَ، عبر جسري الكويتي والأعيور (البعث)، وفي الانتقال من حي لحي كان يسقط مالايقل عن عشر ضحايا بين قتيل وجريح، نخلفهم وراءنا في الغالب.
بسبب خلو حي الحويقة من الأبنية الكثيرة، التي توفر حماية محتملة، كان القرار في نفس اليوم بمغادرة المدنيين الحي سريعاَ، كانوا حوالي 300 شخص، لم يسقط منهم ضحايا في العبور إلى حويجة كاطع، لأن «النظام ترك لهم الانسحاب»، ليبقى عناصر الدولة فقط في الحويقة، مع ولد البلد المقاتلين. جمعوا الجرحى في بناء سقط فوق خمسين جريحاَ بالقصف، ليبقى 250 مقاتلاَ قاوموا لمدة يومين، انسحبوا بعدها باتجاه حويجة كاطع عبر مطعم النخيل على النهر، في حين كان المهاجمون قد تسللوا من شرقي وغربي الحويقة، وطوقوها.
سبعة عشر يوماَ في حويجة كاطع
عندما وصلنا إلى الحويجة انتقل القصف إليها، بعد أن خف قبل الفجر، بخمس وعشرين قذيفة هاون تقريباَ، وقنابل ال آ. جي. سي من جهة مسبح الجسر، حيث كانت تسيطر قوات النظام، عند ذلك وزعنا أنفسنا على طول الحويجة، في وقت لم يعد لدى المقاتلين إرادة للقتال. «كان عندنا اعتقاد أننا سنعبر إلى الأكراد فوراَ»، أو أنهم سيأتون لإخراجنا، يقول الشاهد، لكني عرفت أنهم أرادوا من الدولة تسليم المهاجرين، وهم قرابة خمسة وعشرين شخصاَ، مقابل نقلنا إلى الضفة الأخرى.. «الدولة لا تقبل بهالشي». وفي الأيام الأربعة التالية خف القصف، لكن القنص لم يتوقف، فراح يسقط البعض حين يلجؤون إلى الأشجار لجمع الأوراق بقصد طبخها للأكل، أو لجلب الماء من النهر. وفي اليوم السادس أو السابع كان النظام قد وصل إلى وسط الحويجة، لكن «الدولة رجعته». في تلك الأثناء عبر شخصان، دارت حولهما شكوك في السابق، إلى النظام في قرية الحسينية، وراحا يوجهان نداءات للمحاصرين عبر المكروفونات، بأن «اطلعوا هون متوفر كل شيء»، فاستجابت عائلتان للنداء، وعبرتا النهر. عند ذلك أراد الناس العبور، لكن عبدالله الثامر -مبايع محلي- رفض «لأن النظام يغتصب»، وقد تسلّم القيادة بعد أبو عمر البغيلية المحتجز حالياً لدى النظام (شقيق القائد العسكري السابق هيثم الحسين الذي قتل مع التنظيم بغارة للتحالف في معارك تل أبيض). تأزم الوضع وقتها. الطريق ظل مفتوحاَ لشهر قبل الحصار، والدولة تسمح بالخروج ونبهت المدنيين لذلك، فالناس أخطأت بالبقاء، لكنهم كانوا يقولون «اللي كتبه الله يصير» و«أموت ولا أتشرشح».
في اليوم العاشر عبرت عائلة أخرى، وأرسلت أحد أفرادها (الشاب يمان- كرمه الروس لاحقاَ، ثم التحق بالخدمة الإلزامية) ليخبرنا أن الضفة الأخرى ليس فيها غير الروس، فذهب مع عنصر من الدولة للمفاوضة، ولخص مطالبها بالتعهد بأن «يتركونا للأكراد» بعد عشرة أيام احتجاز فقط.. رفض الروس تحديد وقت معين، لكنهم تعهدوا بعدم تسليمنا للنظام، وقتلوا كل من حاول العبور دون التنسيق معهم، وعلى مدى ثلاثة أيام عبر المدنيون مع المقاتلين، لكن ستيناَ منهم مع عائلة واحدة رفضوا العبور لشكهم بالأمر، فأرسلوا مقاتلاَ اصطحبه الروس إلى أماكن الاحتجاز، وعاد بعد خمس ساعات. اتُخذ القرار بالعبور في اليوم التالي، وعلى مدى يومين، من الصباح حتى مغيب الشمس، انتقل الجميع إلى الضفة الأخرى، باستثناء خمسة عشر مقاتلاَ، بينهم عبدالله الثامر، اتخذوا قرارهم بالتسلل سباحة إلى مجاري تصريف معمل السكر على الشاطىء، والانتقال عبرها إلى الريف...
في السجن الروسي
نقلونا إلى بيتين في قرية المريعية القريبة من مطار ديرالزور، بينما الشيوخ والنساء والأطفال في مدرسة قريبة. لم يضربنا أحد هناك، باستثناء (صائدو داعش)، وهم علويون يعملون مترجمين لدى القوات الروسية. «شلحوا الناس مصاري وضربوهم وصوروهم». وفي التحقيق، الذي استمر خمسة عشر يوماَ، فتحت لكل شخص إضبارة، وأخذت له صورة، تداولوها فيما بينهم للتفييش -تذهب إلى أعوان النظام من أهالي ديرالزور- وبعدها عزلوا ما يقارب 150 شخصاَ كانوا من المقاتلين، بينما بقيت مع عشرين شخصاَ من المدنيين. كان يطوف بنا، بأوقات متقطعة، جنرال روسي للتحدث عن مصيرنا، وسألنا عمن يريد أن يذهب باتجاه الأكراد، فاختار ذلك 98 شخصاَ غالبيتهم من الشباب، واختار الذهاب إلى النظام 120 شخصاَ، بينهم الكثير من النساء والأطفال، أفرجوا عنهم قبلنا بأسبوع.
في الأيام التي قضيناها هناك، وتتجاوز الشهر بقليل، أخذ الروس منا ثبوتياتنا وجوالاتنا، وسلبونا الدراهم التي معنا، بينما اشتروها من البعض. كان بيننا العديد من الجرحى، أخذتهم الطبية على دفعات لتلقي العلاج، ونقلت امرأتين إلى مشفى الأسد لتوليدهما، ثم أعادتهما. جاؤوا بحمام متنقل، وحلقوا شعر رؤوس المقاتلين ولحاهم، والتقط إعلاميون روس العديد من الصور لنا، نشروها في إعلامهم، كما أخبرونا.
في آخر جمعة في السنة نقلونا بسفن نهرية، ثم وضعونا بأربع سيارات زيل عليها شعار الجمجمة، وأربع سيارات بيك آب، نقلتنا عبر حواجز للجيش الوطني والميليشيات، حتى وصلنا إلى جانب جامع حسان بن ثابت في قرية الحسينية، حيث صرنا قريبين من أول حاجز للأكراد. بقينا هناك ساعة، هددنا خلالها أحد العناصر بالبارودة قائلاَ «من مكان ماجيتم ترجعون»، ثم حضر شخص يظهر أنه قيادي، وقال لنا «الكل جوا» ومنحنا حرية التوجه أينما شئنا.