- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
أطفالٌ أميّون وطلابٌ بلا مدارس ولا جامعات..
طلاب سوريون يقدمون امتحاناتهم في مخيمات اللجوء
لم يوفّر الخراب الذي يعمّمه بشار الأسد، في حربه المجنونة على السوريين، أي جانبٍ من جوانب حياتهم. ونال التعليم نصيباً وافراً من هذا الخراب.
تشهد العملية التعليمية في المناطق المحرّرة حالة انهيارٍ كارثية، لم يخفف منها استمرار بعض المدارس المشغلة من قبل وزارة تربية النظام، ولم تخفف منها كذلك المحاولات العشوائية والخجولة للحكومة المؤقتة لتقديم البديل. والآن يسهل كثيراً أن نعثر في أيّ شارعِ من شوارع المدن والبلدات والقرى المحرّرة على طفلٍ أميٍّ في العاشرة من العمر. وأصبح مألوفاً أن نجد مدرسةً ابتدائيةً مغلقة الأبواب - إلا أمام النازحين - منذ سنتين أو ثلاثٍ، وكذلك حال المدراس الإعدادية والثانوية.
يدرك الكثير من الآباء والأمهات خطورة ما يحدث على حياة أبنائهم، لكن انشغالهم بهموم العيش اليومية جعل من تعليم الأبناء هماً ثانوياً. ويندر الآن أن يتذكر أبٌ مهارة طفله بالقراءة ويتباهى به، بعد أن كانت "شطارة الأولاد" جزءاً من الفخر العائلي لكثيرٍ من أبناء الطبقة الوسطى - وفق المقاييس السورية - وهي الأكثرية سابقاً، أو حتى كثيرٍ من أبناء الطبقة الفقيرة. ولم يعد دخول الجامعات حدثاً سعيداً وخطوةً نحو مستقبلٍ أفضل، بعد أن كان معركةً يقاتل فيها الأبوان إلى جانب ابنهم لتحصيل مرتبةٍ أعلى.
يتحدّث مصعب، وهو مدرّسٌ قديمٌ لعلم الأحياء من مدينة الميادين، بحزنٍ عن مهنته. ويصف حالة التعليم بأنها "يرثى لها". ويأسف وهو يصف إخفاق "الثوّار والمعارضة" في الجانب التعليميّ، رغم مشاعر الحماس والتفاؤل التي عاشوها بعد تحرير الميادين قبل حوالي العامين، ورغم محاولات المجلس المحليّ و"تجمع أحرار الميادين" آنذاك لفعل شيءٍ ما، لكن العوائق والصعوبات كانت أكبر من حماسهم ومقدرتهم على تجاوزها.
ورغم مأساوية المشهد التعليميّ، تلفت الانتباه في مدينة الميادين ومدنٍ أخرى رؤية شبانٍ صغارٍ في فصل الصيف، يحملون كتباً ودفاتر وهم يتوجّهون إلى معهدٍ أو مدرّسٍ خاص. هي ظاهرةٌ وتقليدٌ من تقاليد الثانوية العامة في سوريا قبل الثورة، لكن استمرارها، ولو على نطاقٍ ضيق، أمرٌ يدلّ على الإصرار من قبل بعض العوائل على إدخال أبنائها الجامعات. "فالحياة يجب أن تستمرّ"، بحسب هؤلاء الآباء، "ولو في جامعات الأسد"، بحسب من يستنكر إرسال ابنه للدراسة في جامعات حلب والفرات ودمشق. وبعضهم "يرسل ابنه الى اللاذقية ليدرّسه في جامعة تشرين"؛ يعلّق موظفٌ متقاعدٌ يعتبر الذهاب إلى الجامعة "منح شرعيةٍ للنظام". ويستغرب الموظف كيف تدفع عائلةٌ معدمةٌ مبلغ 120 ألف ليرةٍ لتكاليف الدورات الخصوصية لابنها طالب الثانوية العامة. ويؤيد رأي الموظف مقاتلٌ من الجيش الحرّ، كما عرّف عن نفسه، فيقول: "لا أهمية للدراسة قبل تحرير سوريا وطرد عصابة بشار الأسد منها وإعادة بنائها من جديد". ويضيف شارحاً: "عليك أن تهدم هذا البناء وتبني بدلاً عنه، خيرٌ لك من تبحث في زواياه عن مكانٍ لمقعدٍ آمنٍ للدراسة".
ويرى عمار، وهو ثائرٌ متفائلٌ ومنطقيّ، أن التعليم مسؤولية الجميع، وعلى كلّ فردٍ من أبناء المناطق المحرّرة المشاركة في بنائها من جديد، و"إبراز التفوّق الحضاريّ والأخلاقيّ على نظام الأسد". تمكن عمار من الحصول على قبولٍ في كلية الهندسة الميكانيكية بجامعة حرّان بولاية أورفة التركية، بعد أن نجح في امتحان الشهادة الثانوية العامة الذي أجرته الحكومة المؤقتة. وتبدو فرحته بالحياة الجامعية القادمة غير مكتملة، فبعض الأصدقاء ممن كانوا معه في المدرسة استشهد، والبعض ترك المدرسة، والبعض الآخر ممن حصل على ذات البكالوريا لا يستطيع تحمل نفقات الدراسة في تركيا. وعجز الناجحين في ثانوية الحكومة المؤقتة عن إكمال دراستهم الجامعية مشكلةٌ كبيرةٌ لم تفكر هذه الحكومة - كما يبدو - في حلها بطريقةٍ ناجعة. ولولا اعتراف الجامعات التركية بهذه الشهادة لبقي جميع الناجحين فيها في بيوتهم. ولا يزال المئات منهم، وبعد مرور عامٍ على النجاح، عاجزين عن متابعة تعليمهم. ويسجّل للحكومة المؤقتة نجاحها في إجراء الامتحانات، ويؤخذ عليها فشلها في موضوع استيعاب طلبة ما بعد الثانوية في جامعاتٍ ومعاهد.
وقد يكون لهذا الفشل ما يبرّره من أسبابٍ موضوعيةٍ تتعلق بالإمكانيات المتوافرة، لكن هناك أسباباً أخرى ذاتيةً تتعلق بطريقة العمل وكفاءة العاملين وإخلاصهم للثورة في هذا الجانب. وهناك حلولٌ يمكن العمل بها، مثل إنشاء جامعاتٍ في الأراضي المحرّرة على الحدود التركية، أو إنشاء فروعٍ لجامعاتٍ قائمةٍ في بعض الدول العربية - لتسهيل عملية الاعتراف - في هذه الأراضي. ويشكل تخبّط الحكومة المؤقتة في إدارة العملية التعليمية - وقضايا أخرى بالطبع ـ بكافة مراحلها في المناطق المحرّرة عامل ريبةٍ لدى جزءٍ من سكان هذه المناطق، مما يدفعهم إلى مواصلة الوثوق بمؤسسات النظام أو مؤسسات الدولة السورية - كما يقولون، دفاعاً عن خيارهم هذا - التي ستستمرّ بعد السقوط الأكيد لهذا النظام.
بعد أيامٍ سيبدأ عامٌ دراسيٌّ جديد، وستكون في المناطق السورية مناهج تعليميةٌ مختلفة، باختلاف القوى المسيطرة. وفي دير الزور، التي خضعت مؤخراً لسيطرة "الدولة الاسلامية"، لا يشعر الكثيرون بالتفاؤل، وخاصةً مع التدخل الكبير لمسؤولي "الدولة" في المناهج وفي إدارة العملية التعليمية.