نقصٌ في الأدوية، افتقارٌ إلى الأجهزة، نزيفٌ دائمٌ في الكوادر الطبّية والمختصّين، نقصٌ في الخبرات، غياب العمل المؤسساتيّ، ضعف الدعم، ملاحقة النظام وحلفائه والاستهداف الدائم للمشافي؛ كلماتٌ قليلةٌ تلخّص الواقع الطبيّ في الأراضي المحرّرة من سورية.
زادت بوضوحٍ، في الأشهر الأخيرة، وتيرة استهداف طيران النظام وحليفه الروسيّ، وبشكلٍ ممنهجٍ، المستشفيات في المناطق المحرّرة. مما وضع الأطباء العاملين في تلك المشافي أمام تحدٍّ كبيرٍ للاستمرار رغم أنهم فقدوا الكثير من زملائهم وأمام أعينهم خلال تأدية واجبهم الإنسانيّ. وكان من أبرز هذه المجازر ما حدث في شباط الماضي عندما استهدف الطيران الروسيّ مشفى منظّمة "أطباء بلا حدود" في ريف إدلب الجنوبيّ بعددٍ من الغارات راح ضحيتها 9 من العاملين في المشفى وحوالي 15 من المرضى والمدنيين، وعشرات الجرحى.
ويقول الدكتور أحمد حاج علي، العامل في أحد مشافي ريف إدلب: "تعتبر المستشفيات أهدافاً مشروعةً بالنسبة إلى طيران النظام والطيران الروسيّ. سبق وتعرّض مشفى دركوش الميدانيّ لقصفٍ من طائرات النظام ومدفعيته عدّة مرّات".
يواصل النظام وحلفاؤه قصف المستشفيات وسيارات الإسعاف وسط صمتٍ عالميٍّ وتحدٍ كبيرٍ لقرارات الأمم المتحدة التي تنصّ على عدم استهداف المراكز الطبية. وعن ذلك نشرت منظمة العفو الدولية مؤخراً تقريراً وثقت فيه انتهاكات الطيران الروسيّ-السوريّ في حقّ المستشفيات والعيادات في ريف حلب الشماليّ خلال الأشهر الثلاثة الماضية. وقد جمعت المنظمة 6 أدلةٍ مقنعةٍ عن قصفٍ متعمّدٍ وممنهجٍ للمستشفيات والمراكز الطبية خلال الفترة بين كانون الأول 2015 وشباط 2016. وحصلت المنظمة على شهاداتٍ تتحدّث عن استهداف ما لا يقلّ عن 27 مشفى، ستة منها في ريف حلب، تعرّضت للقصف الروسيّ الذي أدّى إلى استشهاد وجرح العشرات من الكوادر الطبية. واعتبرت المنظمة أن هذا العمل العدوانيّ يرقى إلى مستوى جرائم الحرب. وقال مدير الاستجابة للأزمات في منظمة العفو الدولية، تيرانا حسن: "الأمر الشنيع حقاً هو أنه يبدو أن إبادة تلك المستشفيات أصبحت جزءاَ من استراتيجيتهم العسكرية". فمن الملاحظ أن نظام الأسد يتّبع، بالتنسيق مع حليفه الروسيّ، سياسة استهداف مشافي المناطق المحرّرة بمن فيها من كوادر طبيةٍ ومرضى.
وتواجه المستشفيات تحدياتٍ كبيرةً أخرى في ظلّ النقص الحادّ في الكوادر الطبية، ونقص الخبرة وعدم تأهيل كثيرٍ من العاملين في القطاع الطبيّ. فالمئات من الأطباء تركوا البلد بحثاً عن الأمان والاستقرار في بلدان اللجوء، وبعضهم قضى تحت الأنقاض أثناء تأديته عمله الإنسانيّ، والبعض الآخر اعتقل على يد قوّات النظام، وأبرزهم محمد عرب مجهول المصير حتى الآن والذي أصبح رمزاً لأطباء الثورة. إنّ كلّ ما سبق من هجرةٍ واختفاءٍ قسريٍّ واستشهادٍ كانت أسباباً وضعت الكوادر الطبية القليلة أمام تحدٍّ كبيرٍ للبقاء والاستمرار في مساعدة الناس. وقد ذكر الدكتور أحمد لـ"عين المدينة" أن المشفى الذي يعمل فيه، والذي يخدم أكثر من 700 ألف نسمةٍ في منطقةٍ تعيش حالة حربٍ وقصف دائم، لا يوجد فيه سوى جرّاحَين اثنين. وهذا عددٌ ضئيلٌ جداً مقارنةً مع المناطق التي يخدمها والحرب التي يعيشها الشمال السوريّ، مما يجعل عبء المسؤولية على عاتق هذين الجرّاحَين كبيراً جداً. وبالرغم من ذلك يحاولان أن يكون غالبية وقتهما للمشفى، فلا ساعات راحة لديهم.
ومن العوائق الكبيرة التي تواجهها الفرق الطبية الحاجة الملحّة إلى الاختصاصيين والكوادر المدرّبة. وقد أفسح النقصُ الحاصل المجالَ أمام الأطباء غير المختصّين، وطلبة الطبّ الذين لم ينهوا دراستهم بعد، للعمل في تلك المستشفيات، ما أدّى إلى أخطاء قاتلةٍ في بعض الأحيان. ناهيك عن النقص الحادّ في المعدّات الطبية مثل غرف الإنعاش، وأجهزة الأوكسجين الصناعيّ، وأسرّة المرضى، والأدوية بعد أن قصفت غالبية مصانعها في محافظة حلب التي كانت تحوي عدداً كبيراً من معامل الدواء.
الدكتور أنس الخطيب، أحد الأطباء الذين أصرّوا على البقاء ومساعدة الجرحى بالرغم من الظروف القاهرة، حدثنا قائلاً: "في بعض الأحيان تصل إلى المشفى عشرات الحالات في الوقت نفسه نتيجة القصف، فنقف عاجزين بمن نبدأ... الجميع يحتاج إلى إسعافٍ سريع. مما يضطرّ الممرّضين، في بعض الأحيان، إلى أن يقوموا بعمل الطبيب الجرّاح بفتح بطنٍ أو خياطة جرح".