بأعوامه التي تجاوزت الخمسين، وطاقية الصوف، والابتسامة الدائمة، والذقن الحليقة؛ يمشي أبو محمد في شوارع أورفا، مستعجلاً أبداً، ذاهباً كما يبدو إلى الشغل أو قادماً منه. أكثر ما يعجبه في هذه اللحظات أن يصادف شخصاً من دير الزور، يعرف أصله وفصله، ويحدثه دون أيّ اعتباراتٍ اجتماعيةٍ أو سياسيةٍ تعلمها في سنٍّ متقدمة.
رغم النشاط الذي يميّز خطواته، لكن ذلك لم ينجح في جعله يتحمّل العمل في ورشات الإكساء التركية، إذ إنها تتطلب وقتاً طويلاً يضعه بعيداً عن الفيسبوك، والتزاماً صارماً لا يسمح له بشرب الشاي والتدخين على هواه. فقرّر -كي يوفر أجور الأوسطة- العمل لصالحه الشخصيّ في مهنة التبليط التي يزاولها منذ أربعين عاماً، واشترى عدّة القص وأدوات الخلط، وراح يبحث عن الزبائن بين المتعهدين. لكنه يعرف جيداً أن عمله سيقتصر على "التصليحات والزبونات الطيارة"، لأن "شغل المتعهدين يلزمو ورشات كبيرة، بس ما بدّو معلمية"؛ كما يعترف أحياناً لزميليه في غرفة الفندق. ولذلك فما يجنيه لا يوفر أكثر مما يسدّ تكاليف الحياة.
في بيت عربيٍّ -أو أرمنيٍّ- قديمٍ يسكن أبو محمد في إحدى غرفٍ متجاورة، رُمّمت على عجلٍ فصارت الحجارة القديمة تؤطر الأبواب البلاستيكية الحديثة. ويشكل نزلاء البيت/الفندق دائرة أصدقائه الأولى، رغم فارق السنّ الذي يفصله عنهم، ولكنه لا يمنعه من إخبارهم -بالإضافة إلى أصدقاء العمل- أنه لا يستطيع إرسال أيّ مبلغٍ لزوجته وأولاده الأربعة، إلا أنه مطمئنٌ عليهم فقد أودعهم لدى أبيه في بيته الذي اشتراه في الريف منذ أوّل نزوحٍ له عن المدينة. كما يحدّث أبو محمد أصدقاءه هؤلاء، بهدوئه المعتاد، عن "لصوص المنظمات" حين واجههم بحقيقتهم و"حرمانية الرواتب" التي يتلقونها. ولذلك رفض العمل فيها، كما يكرّر، "رغم الدعوات الكثيرة التي وجّهت إليه من القائمين عليها في "البلد". فالمنظمات، "عدا الفساد الذي يستشري بها بشكل فظيع"، تعمل "لأجنداتٍ خارجيةٍ" كما يحلل، و"لصالح المخابرات العالمية" في أقلّ تقدير. ولا بدّ أن يفضي ذلك الحديث إلى تحليل ما حدث في دير الزور، وبالطبع إلقاء اللوم على أحدٍ ما، وفي الغالب مراعاة أن يكون هذا الـ"أحد" لا يخصّ أيّ شخصٍ يشهد الحديث الذي يمتدّ، في بعض الأحيان، حتى ساعةٍ متأخرةٍ قد تمنع أبا محمد من النهوض للعمل في اليوم التالي، وتضطرّه إلى الاتصال بالزبون وإخباره أن وعكةً صحيةً قد أصابته.
في المرّات التي يزور فيها أقاربه أو معارفه القدامى يحبّ أن يبادلهم ذكرياتٍ عائليةً أو شخصيةً مرّت عليها عقودٌ من التعقيدات الصامتة، حتى أصبحت لغزاً على المراقب الخارجيّ، لكنها تبدو اليوم بلا معنى. يقود حديث الذكريات -أو يدفعه أبو محمد- إلى غرابة وضعه في تركيا، وهو عاطلٌ عن العمل تقريباً، وبعيدٌ عن أهله. وهنا ينتظر أن يلومه المضيف على "تفضيله البهدلة" على العيش في ظلّ ثراء عائلته الكبير، واسمهم المعروف، وتاريخهم السياسيّ الذي "يؤهله للجلوس في البيت أو وراء مكتبٍ رجلاً على رجل"، كما يتصوّر هؤلاء الأقارب والمعارف. وهم يشكلون في أورفا الدائرة الثانية من أصدقاء أبي محمد، الذي يتدخل بدماثةٍ -بعد أن يُشبع حديثهم شيئاً ما داخله- واضعاً حدّاً لمضيفه، "فهم في النهاية أهله وليسوا أهل الآخرين، رغم أن الآخرين يجنون الفائدة من علاقتهم بهم أكثر منه"، كما يسجّل أخيراً.
أما دائرة أصدقائه الثالثة فتشمل ناشطين سوريين، يقطع أبو محمد عجلته المعهودة للسلام على أحدهم. وقد يستغرق ذلك السلام نصف ساعةٍ من الحديث عن وضع الأهالي في دير الزور أو أورفا، وحالة العمل والإقامة في الفندق، و"افتراءات الناس التي تصيب أيّ شخصٍ يحاول أن يفعل شيئاً...".
وقبل أن يتابع الصديق مسيره يوشوشه أبو محمد: "لا تنسانا استاذ، إذا حواليك شغل بشي منظمة أنا جاهز. لو مستخدم أعمل شاي وقهوة. تعرف أنت، الراتب غير... ضمان".