من أرشيف الدفاع المدني
يحدث في حلب، ومنذ أشهرٍ عدّة، أن تنطلق مروحيات بشار الأسد وطائراته الحربية صباح كلّ يوم، لا للإغارة على طائراتٍ عدوةٍ أو أرتالٍ مدرّعةٍ لجيوشٍ أخرى، إنما لتحيل أبنيةً يسكنها أطفالٌ وشيوخٌ وربات منازل إلى ركام. وبين الحجر والحديد وكتل البيتون المحطّم يفتش عناصر الدفاع المدنيّ عن جسدٍ بشريٍّ ما تزال فيه رئةٌ تتنفس أو قلبٌ ينبض، ويفتشون كذلك عن أجزاءٍ آدمية. وفي هذه المواقف يسابق هؤلاء الرجال الوقت لإنقاذ من بقيت لديه ولو فرصةٌ ضئيلة للحياة، ويبذلون لذلك جهوداً جبارةً قد تمتدّ لأيامٍ يصلون فيها الليل بالنهار.
عامٌ من العمل
مع تأسيس مجلس محافظة حلب، في الشهر الثالث من عام 2013، تشكل مكتب الدفاع المدنيّ. وكان الغرض منه إنشاء منظومةٍ للدفاع المدنيّ على مستوى المحافظة كلها، تستوعب مجموعات المتطوّعين في هذا الحقل ضمن إطارٍ مؤسّسيٍّ واحد. بدأ تطبيق التجربة بمركزي هنانو في المدينة والأتارب في الريف، لتفتتح لاحقاً فروعٌ أخرى في مناطق مختلفة، يبلغ عددها اليوم 14 مركزاً تتوزّع بين الريف والمدينة في المناطق المحرّرة من حلب، يعمل فيها 300 شخصاً، وهو رقمٌ قليلٌ إذا قورن بحجم العمل المطلوب في الظرف الراهن. يضاف إلى ذلك مقدار النقص الكبير في الآليات والمعدّات والأدوات اللازمة، وخاصةً مع الوظائف الكثيرة لرجال الدفاع المدنيّ، مثل عمليات رفع أنقاض الأبنية المدمّرة، وانتشال الأحياء والأموات من بين الركام، وعمليات إخلاء المدنيين أثناء المعارك أو قبل وقوعها، وكذلك تقديم الإسعافات الأولية للجرحى قبل نقلهم إلى المشافي، وإطفاء الحرائق، وغير ذلك من الوظائف التي تعتمد إلى حدٍّ كبيرٍ على الآليات والمعدّات، مثل الروافع التلسكوبية والتركس والباغر وسيارات الإطفاء وملحقاتها وسيارات البيك آب دبل كبين لنقل العناصر والمعدّات بالسرعة القصوى إلى موقع الكارثة، إضافةً إلى معدّات الإنقاذ الفردية، مثل المباعدات الهيدروليكية والمخدّات الهوائية وغير ذلك من المستلزمات. والأمثلة لديهم كثيرةٌ عن المرّات التي احتاجوا فيها إلى مثل هذه الآليات.
يقدّر عدد الأشخاص الذين أنقذهم عناصر الدفاع المدنيّ خلال الشهرين الأول والثاني من العام الحالي بحوالي مئة شخص. وقد بلغ عدد شهدائه عشرةً منذ تأسيسه، قضوا أثناء عمليات الإنقاذ أو بقصف مقرّاتهم.
موظفٌ في الدفاع المدنيّ
في بداية الثورة لم يخطر على بال طالب الرياضيات في جامعة حلب، الذي يعرّف نفسه الآن بـ"أبو البراءين"، على الإطلاق أنه سيعمل في مجال الدفاع المدنيّ. لكنه، ومنذ الشهر السابع في العام الماضي، مال إلى هذا العمل ونشط فيه. فأصبح اليوم مسؤولاً للعلاقات العامة في مديرية الدفاع المدنيّ لحلب الحرّة، التي أُسّست مؤخراً، بعد أن أعيد تنظيم عمل الدفاع المدنيّ لينفصل إدارياً عن مجلس المحافظة ويتبع وزارة الإدارة المحلية في الحكومة المؤقتة. ويقول هذا الشاب، الذي يبلغ من العمر 27 عاماً: "بالرغم من الطبيعة الإدارية لعملي لكنني شاركت في عمليات الإنقاذ عدّة مرات، عندما كان موقع القصف قريباً من مكان وجودي... إنه إحساسٌ رائعٌ بعد أن تشارك في إنقاذ حياة إنسان". وبحسب أبو البراءين، هناك مجموعةٌ من الاحتياجات الضرورية التي يجب أن تلبّى من قبل الحكومة المؤقتة لإنجاح تجربة الدفاع المدنيّ، مثل ضرورة تأمين معدّاتٍ وعدت الحكومة قبل شهرٍ بشرائها باعتمادٍ بقيمة 550 ألف دولار، ولكنها لم تنفذه حتى الآن. ويحرص أبو البراءين أخيراً أن يقدّم "الشكر لكل من دعم وساهم في إنشاء ونجاح الدفاع المدنيّ، والخزي والعار لكل من يحاول إفشاله، سواء بالتدخل في عمله أو بالاستيلاء على آلياته، ليحرم عناصره الذين يخاطرون بحياتهم لإنقاذ أرواح المدنيين".
عمل ناشــــــطو الدفـــاع المدنيّ في البداية دون أيّ مقابـــــل ماديّ، ثم وُزّعت عليهم مكافآتٌ شهريةٌ بدأت من 2000 ليرة، لتـــــزداد بعد ذلك بالتدريج. وفي الشهر الماضي أعلنت الحكومة المؤقتة دعمها للمشروع، ووزّعت مبلغ 175 $ وسطياً كراتبٍ شهــــــــــريٍّ لكلّ عنصر، ووعدــت أن لا تنسى شهداء الدفاع المدنيّ من الراتــــب الشهريّ الذي يســــــتحقه ذووهم، في المرة القادمة.