- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
«الأسدية» تحرق أول رئيس للجمهورية السورية
اعتدنا عقد لقاءات شبه يومية في المقهى الذي يتوسط أحد أعرق شوارع دمشق، المقهى الذي تحوّل اسمه من "قهوة الديريين" إلى "الروضة"، إلى أن راح البعض يطلقون عليه مقهى "المثقفين".
جمع المقهى مختلف شرائح وأطياف السوريين منذ عقود؛ كتّاب وأدباء وفنانين وسياسيين. وليس أجمل من وقع اسم الشارع الذي يحتضنها على السمع ما إن تسأل صديقاً: أين أنت في دمشق؟ فيجيبك: في شارع "العابد".
"محمد علي العابد"، الذي أطلق اسمه على الشارع، هو أول من حمل لقب "رئيس الجمهورية" في سوريا، فالذين سبقوه في العهد العثماني أو بداية الانتداب الفرنسي سمّوا رؤساء "الدولة" لعدم وجود دستور يتبنى النظام الجمهوري في سوريا وقتذاك.
استطاعت الثورات المندلعة ضد الانتداب الفرنسي منذ دخول "غورو" إلى دمشق؛ كثورة جبل الزاوية وزعيمها هنانو، وثورة ديرالزور بقيادة رمضان شلاش، وجبل العرب "الثورة السورية الكبرى" وقائدها سلطان باشا الأطرش، وغوطة دمشق ورجالاتها الوطنيين من حسن الخراط ومحمد الأشمر، والجولان وثائريها أحمد مريود وأدهم خنجر، استطاعت إرغام فرنسا لتعيد حساباتها تجاه السوريين والخضوع لرغباتهم بتشكيل نظام وطني برلماني ديموقراطي، فغيّرت مندوبها السامي العسكري بآخر مدني وقبلت المفاوضات مع الزعماء الوطنيين المطالبين بإلغاء الانتداب ووحدة سوريا، فتمخّض عن ذلك إجراء انتخابات لجمعية تأسيسية وضعت دستوراً للبلاد عام 1928 وكان يتألف في ذلك الوقت من 115 مادة، أهم بنوده أن سوريا وحدة لا تتجزأ، وأن نظام الحكم فيها جمهوري برلماني.
وبالرغم من مماطلة الفرنسيين وتأجيل اجتماع الجمعية التأسيسية المذكورة، استمر نضال السوريين إلى أن تم انتخاب أعضاء المجلس النيابي الذي أعلن النظام الجمهوري 1932، فانتخب محمد علي العابد أول رئيس للجمهورية السورية.
خلال سنوات دراستنا الجامعية في منتصف تسعينيات القرن المنصرم، وقبل انتقال لقاءاتنا إلى مقهى الروضة، غالباً ما كنا نرتاد مقاهي حي ساروجة الدمشقي العتيق. وما أن تبدأ شمس الشتاء بالمغيب حتى نتوجه سيراً نحو بيوتنا -مختصرين الطريق- بين منازل الحارات القديمة الموزعة في الحي، والممتدة من وسط "شارع الثورة" وسوق الخجا إلى "شارع 29 أيار- السفراء".
وخلال المسير، غالباً ما كنا نمر بمجموعة بيوت دمشقية متهالكة تتوسط الحارات، يطلق أهالي المنطقة على أكبرها "بيت العابد"، وهو الذي ولد فيه الرئيس العابد وقضى طفولته الأولى.
البيت في حالة يرثى لها من الاهتراء، إذ كشفت أجزاء عدة من أسقفه وتداعت هياكله، كما ظهرت بعض التشققات في جدرانه، فيما تحولت غرفتان من باحة استقباله إلى مخزن وورشة لتصنيع الأحذية! في الوقت الذي يعتبره أهالي الحي بمثابة قصرٍ لا يقل قيمةً وجمالاً عن قصر العظم الذي يقع "داخل السور"، رغم فارق المساحة التي يصغر بها بيت العابد عن قصر العظم.
ولعل أبرز البيوت التي ارتبطت باسم العابد أيضاً هو "قصر ساروجة" الذي يناهز عمره اليوم الثلاثمئة عاماً، منذ أن قام "هولو باشا العابد" جد محمد علي بإنشائه، فكان البيت الذي سكنه الرئيس العابد في فترة ممارسته النشاط السياسي، وحكم منه سوريا مدة ستة أشهر قبل انتقاله.
تعرّض ذلك المنزل للحريق ثلاث مرات خلال حكم آل الأسد، ويعتبر أول منزل دمشقي تعرض لحريق سببه "ماس كهربائي" في ثمانينيات القرن الماضي، في سابقة لم تشهدها العاصمة السورية من قبل، كما تعرض لحريق آخر عام 1995 امتد إلى الطابق الثاني من المبنى (السلملك) متأثراً بتطاير لهيب النار المشتعلة في البيت. كما تعرض في عام 2006 لحريق قضى على أحد طوابقه.
ويعتبر المنزل أو "النُزل" الذي اشتراه عزت باشا العابد والد محمد علي، في ساحة المرجة، من أهم البيوت التي اقترنت بعائلة العابد. ولعل أبرز ما شهده هذا البناء في كنف عزت باشا ووريثه محمد علي هو عقد المؤتمر السوري العام الأول ضمن صالونه الكبير عام 1919، الذي يعد أول برلمان سوري تحت رئاسة محمد فوزي باشا العظم، فاستأجره رضا باشا الركابي (رئيس أول وزارة في تاريخ سوريا المعاصر زمن الملك فيصل) من العائلة لجعله مقراً للمؤتمر السوري قبل أن يتم إنشاء البرلمان الحالي.
أما اليوم، وفي ظل نظام الأسد، يَمْثُل المبنى بهيكله القديم الحجري وبطرازه الإيطالي المشابه لطراز مدينة البندقية، وقد تحول جزء صغير منه إلى فندق من "فنادق المرجة"! بعد أن انتقلت ملكية البيت إلى مديرية الأوقاف، والجزء الأكبر منه بالمزاد العلني لصالح المديرية. فتحولت الغرف في الأدوار العليا إلى مكاتب لمعقبي المعاملات والمترجمين المحلفين والمهندسين والمحاميين، فيما شغلت المحلات التجارية ومطابخ الحلويات الطابق الأرضي وباحة البناء.
لم يبقَ اليوم ما يحمل اسم العابد سوى شارع مقهى الروضة، فهل يتمكّن الأسد من انتزاعه من ذاكرة السوريين وإتمام حرق "الجمهورية" الأولى ورئيسها؟ الرئيس الذي شهد يوم تقلّد مهامه في 11 يونيو/ حزيران 1932 رَفْـع العلم ذو النجمات الحمر الثلاث لأول مرة، العلم ذاته الذي شهد الاستقلال الأول، والذي يرفعه الثوار السوريون منذ 9 سنوات؛ وربما سيشهد الاستقلال الثاني من الاحتلال الأسدي