يوم انتحر عفلق

كانت دراستي الثانوية (1998 - 2000) في مدرسة المتفوقين في مدينة دير الزور، عندما كانت تسمّى مدرسة «الشهيد باسل»، قبل أن يطلق عليها الثوار لاحقاً اسم الفتى الشهيد محمد ملا عيسى. في ذلك الوقت كان هناك اهتمامٌ مصطنعٌ من الجهات الحكومية بهذه التجربة الحديثة، ما استدعى زيارة وزير التربية للمدرسة مرتين في عامين متتاليين، إضافةً إلى زيارات المسؤولين المحليين وإطلالات الجرائد الرسمية.

وطبعاً، لأننا في سوريا الأسد، يجب أن ينسحب الاهتمام إلى الحزب. ولذا لم يكتف فرع حزب البعث العربيّ الاشتراكيّ في دير الزور بتنسيب الطلاب المتفوقين كأعضاء أنصار (جمع نصير)، كما يفعل في كل مدارس سوريا، بل زاد عليه أن جعل الاجتماعات الحزبية تتمّ أسبوعياً في مكتبة المدرسة، بعد انتهاء الدوام مباشرةً، مما لا يترك مجالاً لأيّ طالبٍ -أقصد لأيّ رفيقٍ بعثيّ- أن يتهرب من حضور الاجتماع. وكان أن انتدب الحزب الرفيق أبو عبد الله ليكون أميناً لحلقتنا الحزبية. زاول الرفيق أبو عبد الله مهمته منذ اليوم الأول على أكمل وجه، فبعد ترديده الشعار قسم الاجتماع إلى ثلاثة محاور؛ الأول عن النظام الداخلي، والثاني للنشرة السياسية، والثالث يفتح فيه باب النقاش. كان المحوران الأول والثاني هما الأسهل بالنسبة إلينا، فكل ما علينا هو الاستماع إلى هراءٍ تعودنا سماعه، ولا بأس من بعض التثاؤب خلاله، إلا أن المحور الثالث، أي النقاش، كان أمراً لا يطاق. لم يحظ الرفيق أبو عبد الله في الاجتماع الأول -بعد كلّ التشجيع والتحفيز- إلا على سؤالٍ واحد، تعرّض سائله لنظراتٍ حادةٍ من الطلاب الرفاق الذين ينتظرون لحظة انتهاء الاجتماع والعودة إلى البيت بفارغ الصبر. كان الرفيق أبو عبد الله أكثر خبثاً في الاجتماع الثاني، فأعلن أن الاجتماع لن ينتهي قبل أن تكون هناك ثلاث مشاركاتٍ من الأنصار على الأقل، كانت هذه ورطةً بكل ما في الكلمة من معنى لنا. لكن، للأمانة، عليّ أن أذكر أن الرفيق أبو عبد الله قد سهل المهمة علينا كثيراً، فيكفي أن يُطرح سؤال، أياً كان هذا السؤال صغيراً أو كبيراً، تافهاً أو هاماً، لينطلق في الحديث مطولاً ومطولاً جداً، ليس عما يخص السؤال وحده، بل عن كل ما يرغب هو في الحديث عنه، دون أن يتمكن أحدٌ من إيقافه.

واحدةٌ من أهم ميزات الرفيق أبو عبد الله، التي يتشاطرها مع كثرٍ من البعثيين، هي الكذب بتلقائية؛ كان الكذب أمراً عفوياً لديه، لا يحتاج إلى تأملٍ أو وقتٍ لاختراع الكذبة، مهما كان نوعها أو حجمها. فعندما سئل عن سبب إلغاء نتنياهو زيارته لفرنسا امتدّ جوابه لحوالي ثلث ساعة، مجّد فيه القائد المناضل أولاً، ثم كشف أن السبب هو اكتشاف الموساد الإسرائيليّ كميناً كانت قد جهزته المخابرات السورية لاغتيال نتنياهو في باريس! تكلم طالبٌ آخر حول حصار العراق وبرنامج النفط مقابل الغذاء، وهنا فرح الرفيق أبو عبد الله وكأنه التقط صيداً ثميناً، وأخذ يخطب بنا عن مواقف سوريا القومية وحكام الخليج المتخاذلين ووقوف القيادة إلى جانب الشقيقة العراق رغم كل الضغوطات ورغم كل انحراف بعث العراق. ولم يقنع الرفيق أبو عبد الله بالوقوف عند تلك الكليشيهات فحسب، بل حدثنا عن قصةٍ لم يسمع بها أحدٌ غيره، وراح يروي بتفاصيل أدقّ من الدقيقة كيف تدخل القائد المناضل بإنسانيته المعهودة لحلّ مشكلةٍ عائليةٍ داخل بيت صدام، وتوسّط بين الأخير وابنه الغر عدي، فحلت القضية وعادت المياه إلى مجاريها!! وفي سرديةٍ أخرى لحكايا الرفيق أبو عبد الله التي لا تنضب، حدثنا بفخرٍ عن التطوير التقنيّ الذي أجراه الجيش العربيّ السوريّ لدباباته، وكيف أن البنتاغون حاول الحصول على معلوماتٍ -ولو مبسطةٍ- عن هذا التطوير، وباءت محاولته بالفشل!

دون أن يرفّ له جفن، أمام شبانٍ وشاباتٍ في السابعة عشر من العمر؛ مضى الرفيق أبو عبد الله في دجله دون وازع. وجاءت أبرز إبداعاته وأشدها تألقاً في إجابةٍ عن سؤالٍ طرحه أحد الرفاق الدراويش عن ماهية الرسالة الخالدة للأمة العربية في شعار الحزب؛ فردّ الرفيق أبو عبد الله: سُئل الرفيق القائد المناضل حافظ الأسد هذا السؤال فأجاب: (الرسالة الخالدة للأمة هي الإسلام).