يوم الكيماوي... القيامة الآن!

شهاداتٌ طبّيّة عن مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية في 21/8/2013

  "استفقتُ الساعة الثالثة صباحاً على صوت مكبّرات المآذن، كرّروا النداء الذي كان يطلب من الناس أن يأخذوا البطانيات (الأغطية) إلى المشفى. ظللتُ أفكر بالسبب إلى أن سمعتهم هذه المرّة ينادون على جميع الأطباء بالتوجه إلى المشفى، فلبست ثيابي ونزلت. وفي الطريق قابلت أناساً يحملون البطانيات، وجوههم مخطوفة اللون، يهرولون رغم ثقل حملهم. أخبروني بأصواتٍ جزعةٍ أن النظام ضرب الغوطة بالكيماويّ، وأن المشافي تغصّ بالمصابين والشهداء. لماذا لم يقل المنادي على المكبّر ذلك؟".

يكمل الدكتور محمد درويش: رأيت شاحنةً وصلت للتوّ أمام باب المشفى، يتكوّم الناس فيها فوق بعضهم. أناسٌ كثرٌ من حولي، بعضهم ذهبوا ليساعدوا في إنزال المصابين وخلع ثيابهم قبل أن يبدأ صهريج الماء برشّهم، ومن الداخل يصل إليّ صوت الصرخات. عندما أتذكر المشهد حين دخلت لا يخطر في بالي وصفٌ إلا القيامة. لا طريق بين الناس المرميّين على الأرض، الذين ربما لم يتمّ فحصهم حتى الآن لمعرفة إن كانوا أحياء أم موتى. ثيابٌ مكوّمةٌ هنا وهناك. فوضى عارمة على طاولات المواد الطبية. أناسٌ يحملون مصابين أو شهداء، ومتطوّعو تمريضٍ لم يتدرّبوا على التعامل مع إصابات الكيماويّ ولا يسعهم عمل شيءٍ إلا بتوجيه أحد الأطباء، الذين لم يكن يوجد منهم إلا قلةٌ بينهم الدكتورة أسماء والدكتور صخر.

يقول الدكتور صخر: كنت مدير المشفى، وجاءني النداء عبر اللاسلكي لكي أنزل إليها. أخبروني أن النظام قام بضرب الكيماويّ، فخُيّل لي أن الأمر مثل المرّات السابقة التي كانت على نطاقٍ محدودٍ ضمن جبهات القتال. كنا بدأنا التحضير بشكلٍ بسيطٍ لتدابير المعالجة وتدريب بعض الممرّضين، لكن ما رأيته عندما وصلت جعلني أدرك أن تحضيراتنا لم تكن ذات قيمة. حدث ما خشيناه، وانتابني شعورٌ أنها القيامة.

أكوام بشرٍ فوق بعضهم، منهم من يرتعش وآخرون يبدون جثثاً. يخرج الزبد من أفواه بعضهم. بعضهم يضحك وآخرون يصرخون. كانت هستيريا جماعية لا يمكن وصفها.

بدأت بالمشاركة في معالجة المصابين الذين كانوا أكبر من قدرة أيّ مشفى في أيّ دولةٍ متطورةٍ على استيعابهم. الآلاف هنا، بعضهم كان شبه ميؤوسٍ منه، لذا فضّلنا معالجة الذي نتوقّع إنقاذ حياته. كان ذلك مثيراً للقهر بشدّة. لم يكن لدينا أيّ لباسٍ خاصٍّ لمثل هذه الحالة، كنا نرتدي ثيابنا الطبية التقليدية.

بعد ساعتين أو ثلاثٍ من العمل المضني بدأ نظري يزيغ، أحسست بالتشوّش والاختناق، تركت المرضى وجلست أبكي. وبعد لحظاتٍ انهارت قواي ووقعت أرضاً. أحسست بأطباء حولي يفحصونني، ثم أخذوني إلى صهريج المياه خارجاً وغسلوني بها. كان هذا آخر ما أتذكره قبل أن أجد نفسي في غرفة العناية المشددة. أردت أن أخرج للعودة إلى المرضى لكن الطبيب منعني. كنت لا أرى جيداً ولا أملك قوّةً للنهوض، قال لي إنني استنشقت من الغازات التي كانت عالقة في ثياب المرضى وأجسادهم. لكنني كنت أريد العودة إلى المرضى الذين هم في أمسّ الحاجة إليّ الآن. وفي الوقت نفسه كنت أشعر أنني ميت لا محالة.

مع بزوغ الفجر سمحوا لي بالعودة بعد تحسّن حالتي. وجدت ركناً تمّ فيه تجميع الجثث وإعطاء كلٍّ منها رقماً، كان منظرها مهولاً. أطفالٌ ونساءٌ ورجالٌ تجاوز عددهم المئتين. طلبت من ممرّضةٍ أن تساعدني في أخذ عيّنات الدم من الشهداء وتسجيل رقم الجثة على كلّ أنبوب. كان لديّ هاجس توثيق هذه الجريمة منذ أن كنت أعالج المرضى. كنت خائفاً أن لا يصدقنا أحد، فالمنظر لا يصدّق بالفعل.

كنت مدير المكتب الطبيّ الموحّد حينها، وأحصينا 1477 شهيداً وحوالي عشرة آلاف مصابٍ من كلّ المشافي. بدأت بالتواصل، في اليوم الخامس، مع لجنة الأمم المتحدة لتقصّي استخدام السلاح الكيماويّ التي كانت قد وصلت إلى دمشق. رفضوا بدايةً فكرة القدوم إلى الغوطة، وطلبوا منا أن نجمع العيّنات ونوثّق الحالات ثم نرسلها إليهم. كانت الشروط التي طلبوها لقبول العيّنات والتوثيق مستحيلة في أوضاعنا. فأخبرتهم أنهم لا يبعدون عنا إلا عشر دقائق بالسيارة، وبإمكانهم القدوم والتوثيق بالشكل الذي يحلو لهم. وضعوا شروطاً قبلناها كلها.

حين وصلوا كنا في استقبالهم وأخذناهم إلى النقطة الطبية التي قمنا بتجهيزها كما طلبوا. لم يقبلوا منا أيّ طعام أو شراب، كانت معهم كلّ حاجياتهم. قابلوا حوالي 30 مصاباً، أخذوا منهم عينات الدم والبول والشعر. كانوا شديدي التعاطف مع المصابين الذين رووا لهم ما حدث وكم فقدوا من أهلهم في المجزرة. اصطحبناهم أيضاً إلى المقبرة ليأخذوا عيّناتٍ من الجثث، وزاروا معنا أماكن القصف وبيوت الضحايا. كان هناك صاروخٌ مغروزٌ في الأرض يشير إلى جهة إطلاقه من دمشق. أحد البيوت كان لا يزال ينتظر أهله، وجبة عشاءٍ على مائدة الطعام، صحونٌ وكؤوس شايٍ مليئةٌ لنصفها، وأرغفة خبزٍ لم تكتمل.

حين قرأت تقريرهم في ما بعد وجدته منصفاً، لم يذكروا النظام بالاسم لكن كان واضحاً أن كلّ الدلائل تشير إليه ولا لأيّ أحدٍ غيره. لكن المشكلة هي في الدول الكبرى التي لا تريد محاسبة الفاعل. دماء السوريين غير مهمة لهذا العالم.