- الرئيسية
- مقالات
- ترجمة
يا أصحاب البطش كونوا حذرين: الروح الديمقراطية ما زالت حية
ريتشارد هيرتسينغر
30 آب عن جريدة DIE WELT الألمانية
ترجمة مأمون حلبي
في وقتنا هذا، يهيمن أصحاب البطش على السياسة العالمية؛ إنهم نوعٌ من الزعماء الذين يعتبرون أنفسهم مطوبين لعقد "صفقات" فيما بينهم ترسم مصير العالم.
بوتين روسيا، بالتحالف مع إيران، خنق ثورة العشب السوري ضد بشار الأسد، وهذا ما أتاح لنظام دمشق أن يستعيد السيطرة الكاملة -تقريباً- على البلاد. ودُمرتْ أجزاء كبيرة من سوريا، وقُتل مئات الآلاف، وأُجبر نصف السكان -تقريباً- على الفرار.
يبدو الغرب مهيأ الآن ليقبل أن هذه الحقائق هي نتيجة للانتهاكات الأكثر خطورة للقانون الدولي، بما في ذلك استخدام الأسلحة الكيماوية؛ لكن بالنسبة للرئيس ترامب، الذي يعبر بشكل صريح عن احتقاره لمؤسسات الديمقراطية الأميركية، كما لحلفاء أميركا الغربيين، فإن حقوق الإنسان ونشر الديمقراطية لا تشكل قواعد هادية للسياسة الخارجية الأميركية. ومن الواضح أن ترامب يشعر بارتياح كبير بصحبة الحكام المستبدين من نموذج بوتين، أو الرئيس الكوري الشمالي، الذي يبني علاقة تواطئية معه.
النموذج الاستبدادي الجديد آخذٌ في أن يصبح أكثر جاذبية في أوروبا، ففي بلدان أوروبا الشرقية كالمجر وبولونيا، تعاني الديمقراطية الليبرالية المرتكزة على حكم القانون من عطب خطير؛ وحتى في إيطاليا، تستعد الحكومة الشعبوية المشكلة مؤخراً للتفكيك التدريجي لهذه الديمقراطية. لكن بالرغم من العودة الواسعة للنزعة الاستبدادية، تبقى روح الصحوة الديمقراطية حية ومعافاة على نطاق عالمي؛ ففي رومانيا، فجَّرت محاولات الحكومة إضعاف الكفاح ضد الفساد احتجاجات جماهيرية، هذه الاحتجاجات ترسل إشارة قوية ضد التهديدات بالتراجع عن الإنجازات الديمقراطية منذ عام 1989. وفي أوكرانيا أيضاً، تستمر قوى المجتمع المدني بمقاومة كل المساعي الهادفة إلى أضعاف تشريع مكافحة الفساد.
إن الحركة الديمقراطية المعادية لموجة النزعة الاستبدادية الجديدة ليست حكراً على أوروبا، فهناك مزيدٌ من الناس في إيران يتظاهرون رفضاً لظروف معيشتهم البائسة في ظل نظام شمولي، ولن يتراجعوا عن احتجاجاتهم حتى ولو بالقمع الشديد؛ وفي العراق ازدادت المظاهرات الجماهيرية في الأشهر الأخيرة ضد سوء إدارة الحكام للبلاد.
نظراً للتطورات الكارثية -على الأغلب- التي تلت "الربيع العربي" ، شاع رأي في الغرب يرى أن قيم الحرية لا يمكن تطبيقها في هذه المنطقة من العالم لأسباب "ثقافية". وهناك سياسة غربية هادفة إلى نشر وتعميم هذه القيم كثيراً ما يتم شجبها الآن بصفتها سياسة طوباوية ساذجة؛ لكن الاستبيانات الحديثة للمجتمعات الأهلية، تُظهر أن السلم والاستقرار في الشرق الأوسط يمكن تصورهما على المدى الطويل فقط عن طريق تطوير الظروف الديمقراطية.
في سوريا ستندلع الاحتجاجات المدنية ضد نظام الأسد من جديد بعد نهاية الحرب؛ علينا عدم نسيان أن التمرد السوري بدأ كمقاومة سلمية قبل أن يَعْلَق بين القوات الموالية للأسد من جهة وتنظيم الدولة من جهة ثانية. وهناك بَلَدَان أيضاً في أميركا اللاتينية هما مسرح للحركات المؤيدة للديمقراطية؛ ففي فنزويلا يقود الرئيس مادورو البلاد إلى الدمار باسم "اشتراكية القرن 21"، مُحولاً حكمه إلى حكم طغيان لصوصي؛ وتقوم المنظومتان العسكرية والقضائية، اللتان أفسدهما مادورو، بقمع المعارضة بوحشية كبيرة؛ وهو يستخدم محاولة اغتيال حدثت مؤخراً ضده، والتي من الوارد أنه قد دبرها بنفسه، كذريعة لتشديد القمع. فانفضّ عدد كبير من أنصار الرئيس الراحل تشافيز عن مادورو، وانضموا للمعارضة؛ وعلى المدى الطويل، لن ينجح مادورو بكسر تصميم هذه الحركة المدنية التواقة لإحداث تغيير ديمقراطي.
الوضع في نيكاراغوا مشابه لفنزويلا، فهناك أيقونة سابقة أخرى "للعداء اليساري للإمبريالية" تتسبب بمتاعب نتيجة تفردها بالحكم. وكان الرئيس أورتيغا، الذي نهب البلاد بشكل ممنهج لصالح عائلته، بطلاً للثورة ّ الساندينية ضد الديكتاتور سوموزا في أواخر سبعينيات القرن الماضي، لكن في الوقت الحاضر، حتى رفاق أورتيغا السابقين المقربين يطالبون بإزاحته، ويقولون (أنت شرير أكثر مما كان عليه سوموزا)؛ وفي نيكاراغوا أيضاً، لا تستطيع إجراءات النظام القمعية الوحشية أن تردع القوى الديمقراطية عن مواصلة كفاحها.
سواء ظهرت الديكتاتوريات خلف قناع يساري أو يميني أو ديني، هي في جوهرها شديدة التشابه،. فتحتَ ستار الإيديولوجيا، تسيطر شِلل السُرَّاق على جهاز الدولة وتدمجه بالجريمة المنظمة، وتقدم منظومة الحكم البوتينية النموذج لهكذا دولة استبدادية مافياوية؛ لذا فليس مصادفة أن هذه المنظومة البوتينية هي إحدى أشرس الداعمين لحكم مادورو وأورتيغا. ومن أجل هذا، فالقوى الأوربية الدائرة في فلك الكرملين، بما فيها أقسام كبيرة من الحزب الاشتراكي الألماني، وفية ٌ لمادورو وأورتيغا.
إن كان الغرب لا يريد لهؤلاء أن يملكوا المستقبل، فلا سبيل أمامه سوى التشجيع الفعال لنشر الديمقراطية في شتى أنحاء العالم.