وراء كل رجلٍ عظيمٍ امرأة...

اللوحة للفنان إسماعيل شموط

اعتدنا، في كلّ مرّةٍ نتحدّث فيها عن رموز الثورة، أن نذكُر رجالها ونعرض سيَرَهم. ولكن حديثنا هذه المرّة عن شقائق الرجال، عن وريثة شهيدٍ مناضل، الطبيبة ميسون السارة زوجة الشهيد محمد نور مكتبي (انظر ترجمته في العدد السابق).

السيرة الذاتية

ميسون السارة من مواليد دير الزور 1970. درست الطب في جامعة حلب، وفيها تعرّفت إلى زميلها محمد نور مكتبي الذي طلبها للزواج رسمياً، إلا أن تقاليد عائلتها لم تكن تسمح بتزويج ابنتها لشابٍّ في حلب. عام 1996، وبعد 3 سنواتٍ، كُتب لقصّتهما النجاح بعد وساطةٍ وتزكيةٍ للخطيب من قبل أحد أعيان حلب آنذاك. ولم يمنعهما زواجهما أثناء الدراسة من المتابعة وحصولها على شهادة الدراسات العليا من جامعة حلب (اختصاص طب الأطفال)، وكذلك حصوله على شهادة الاختصاص في الأمراض الداخلية والصدرية، وبعدها إجازة في الشريعة.

حياتها وعملها

منذ ارتباطها بالطبيب «الملتزم وصاحب الرسالة»، وممارستها المهنة في عيادتها الخاصة، وعملها في مستوصف الزّبديّة بحلب؛ بدأ نمط الحياة الذي اعتادته مع أسرتها يتبدّل شيئاً فشيئاً. ارتدت «المانطو» فور خطوبتها، حباً وقناعةً بأفكار زوجها. بات عليها ألاّ تأخذ أجرةً من المرضى المُعْسرين، ألا تكون كباقي النساء. ليست كنظيراتها من الطّبيبات أيضاً، هي الآن طبيبةٌ زاهدةٌ وداعيةٌ تحمل رسالةً ساميةً. تقول في لقاءٍ خاصٍّ مع «عين المدينة»: هكذا ربّاني زوجي. بدأت أُدرك أننا رسل الله في الأرض، بل خُلقنا لذلك. الآن، بعد استشهاد نور، عرفتُ تماماً معنى كلامه أثناء الخطوبة: ما الفائدة من زوجٍ غنيٍّ ثريٍّ لا يأخذ بيدك نحو الجنّة؟ (لم يكن يملك شيئاً حينها).

ألقى رحيلُ زوجها أمانةً ثقيلةً على كاهلها. اضطرّت إلى ترك عيادتها ومستوصفها ومغادرة حلب الغريبة المُوحشة بعد اعتقاله، لتبقى قرب أهلها المقيمين في الحسكة. لم يطُل بقاؤها هناك أيضاً، إذ اضطرّت إلى العودة مجدداً إلى حلب المحرّرة، لاستكمال تعليم أولادها الذي تعثّر في الحسكة نتيجة الظروف الأمنيّة، بعد ورود نبأ استشهاد رفيق دربها، لتبدأ رحلةً جديدةً تُكملُ بها طريقاً طويلاً خطّه شريكُها قبلها.

مطلع 2013 عملت في مستشفياتٍ ميدانيةٍ عدّةٍ داخل مدينة حلب المحرّرة، كطبيبةٍ ومُشرفة، وأمضت نحو عامٍ ونصف العام متنقلةً بين المستشفيات ودور الرّعاية الصحية ومراكز التدريب والمحاضرات.

نزوحٌ قسريّ

مجدّداً وجدت نفسها مضطرّةً إلى المغادرة، ولكن هذه المرّة إلى تركيا، لمتابعة تعليم أولادها الذي تعثّر من جديدٍ في المناطق المحرّرة نتيجة قصف المدارس وعدم وجود جامعات. كان من الصعب عليها الابتعاد عن ممارسة رسالتها التي نذرت نفسها لها كما تقول: «رسالتي في سمّاعتي»، فعمِلتْ في مشفى أورينت الإنساني، مسؤولةً عن رعاية أكثر من 80 طفلاً، ثم انتقلت إلى مدينةٍ أخرى في تركيا، وهي الآن مسؤولةٌ عن رعاية 180 طفلاً وأمهاتهم، في جمعيةٍ تُعنى برعاية أسر الشهداء، تقيمُ معهم وتُشرف على نموّهم ونظامهم الغذائيّ وكلّ ما يتعلق بهم من الناحية الصّحيّة، بشكلٍ شبه طوعيّ. وفي حديثها مع «عين المدينة» لم تُخف حُزنها ونَدَمَها الشّديدين لتركها مدينة حلب التي باتت اليوم في أمسّ الحاجة لها، بعد استشهاد آخر طبيب أطفالٍ فيها، راجيةً أن يُفتح الطّريق ويُفكّ الحصار لتكون من السبّاقين إليها.

الطالبة والمعلّمة والمربّية

عادت الدكتورة ميسون إلى مقاعد الدراسة من جديد، في معهد مكة للعلوم الشرعية، عهداً منها على السير على نهج زوجها الشهيد. ورغم ذلك لم يؤثر انشغالها على علاقتها بأبنائها وواجباتها تجاههم، فهي الآن تمارس دور الأب والأم والمعلّم والمربّي. ابنها الأكبر عمار عَزَمَ على الاقتداء بأبيه الطبيب الدّاعية، فتمكن من دخول كليّة الطبّ في تركيا، بالتوازي مع حفظه القرآن الكريم وإصراره الشديد على دراسة العلوم الشرعية، تماماً كوالده. أما أُخته رغد فقد تمكنت، خلال شهرين فقط، من دراسة مواد الصف التاسع في منزلها، والحصول على شهادة التعليم الأساسيّ. وكذلك بقيّة الأبناء؛ عبد الكريم وفاطمة الزهراء وعُلا ... جميعُهم متفوّقون في دراستهم، بفضل متابعة والدتهم وحرصها على وصايا زوجها الذي يزورها في أحلامها ويطمئنّ عليها بين الحين والآخر!