- الرئيسية
- مقالات
- رادار المدينة
هزائم تقاوم النسيان
فقدت الحياة قيمتها لتتحول إلى مجرد أرقام على عداد الزمن دون جدوى أو معنى، والأمل الوحيد للبقاء هو الاحتفاظ ببعض ما بقي من قواك العقلية في عالم يغرق بالجنون واللا منطق، لا شيء هنا يشبه الحياة، حتى لكأنّنا قد نسيناها واستبدلناها بذاكرة عمن راحوا كي لا يبتلعهم وحش النسيان أيضاً.
في ما تبقى من دمشق، يعيش اليوم كثير من الناس اللحظات انطباعات وصوراً وقصصاً وكلمات بقيت ممن رحلوا، يتجاورون في فسحات المكان متأملين بعضهم البعض بذهول، ويمارسون ما اعتادوا عليه بآلية باردة يسكنها ألم الفقد، وكأن هذا الأخير المسنن المكسور في عجلة الأيام الرتيبة.
هكذا اعتادت سوسن الاتصال يومياً مرات ومرات، تعلم أنه لن يجيب، لكنها بقيت تحاول، لم تستطع منع نفسها، وكأن وسواساً ما سكنها، تسمع المجيب الآلي: "الرقم المطلوب مغلق أو خارج التغطية" لسبب ما كانت تجد بعض السلوى في الأمر، حتى حين خرج الخط من الخدمة، استمرت بعادتها الغريبة كأنها صلاة من نوع ما.
مرّت ثلاث سنوات على اختفائه من على أحد الحواجز في دمشق، و"الرقم المطلوب" يدلّي خيطاً رفيعاً تتعلق به أيامها، لكن أملها تحطم هذه المرة، فحين اتصلت كالعادة رد شخص على الطرف الآخر، التقطت أنفاسها واستجمعت ما لديها من قوة لتسأل: "آلو.. حسام؟"، يأتيها الصوت غريباً بعيداً "غلطانة يا اختي"، "عفوا.. لا تواخذني" وأغلقت الخط. في تلك اللحظة علمت أن "الرقم المطلوب" خرج أخيراً من الخدمة، وأصبح متاحاً لشخص آخر، بكت وبكت حين انقطع الخيط وغاب حسام إلى الأبد.
كانت ترفض أن تنساه، ورفضت الزواج من غيره، بعد "سبع سنين حب، وسنتين خطبة". حسام مهندس الميكانيك اختفى كل أثر له في العام 2015، لم يترك أهله وسيلة أو واسطة أو رشوة لكن دون جدوى، حتى فقد الجميع الأمل في عودته حياً أو ميتاً، واحتسبته أمه عند ربها شهيداً. لكن سوسن لم تستطع حتى نزع خاتم الخطوبة من يدها اليمنى.
عائلة حسام طلبت منها ألا تزورهم، فوالدته كلما رأتها غرقت في البكاء والنحيب لأيام، أما عائلة سوسن -التي تعمل مدّرسة للغة الفرنسية- ففقدت الأمل في أن تستطيع ابنتهم "المخطوبة مع وقف التنفيذ" إكمال حياتها الشخصية: "ما بدي إنساه ولا بدي كمل حياتي، أصلاً شو بظل بالحياة إذا نسيتو".
في إحدى المناطق العشوائية في دمشق، تجلس أم سامر على سطح منزلها تراقب الشارع من فجوة في الحائط بعيون نصف مفتوحة، تمد ساقيها للشمس وتنتظر، تعلم أن لا أحد من أبنائها الثلاث سيمر، وخصوصاً الأصغر، فالأكبر استطاع الوصول إلى أوربا، أما الأوسط فقد انشق وهرب إلى عرسال في لبنان ومازال هناك.
الابن الأصغر له حكاية مختلفة، فالشاب العشريني استشهد في معارك القصير في العام 2013: "كانت الدنيا رمضان، حكا معي وقلي مشتهي أكلة القمح بلبن، وطبختلو ياها تاني يوم، بس ما اجى ع الفطور". علمت أم سامر من صديق ابنها، أنه استشهد في ذلك اليوم خلال محاولته حماية المدنيين الهاربين أثناء اقتحام النظام منطقة القصير؛ علمت أنه قُتل دون أن يتعذب، لكنهم لم يستطيعوا دفنه في ذات اليوم، فعاد أصدقاؤه في اليوم التالي ودفنوه ليلاً في بستان هناك.
تتحدث أم سامر عن توقها لزيارة قبر لا تعرف مكانه، قبر يغرق في النسيان، وعن أصدقاء ابنها الذين استشهدوا جميعاً الواحد تلو الآخر، وتخشى أن ينسيها الموت شهيدها، فكل ما تستطيع فعله أن تعيش وألا تنساه.
في دمشق تتجول الجدة ميساء في ممرات منزلها متعثرة بأطياف من غابوا، تجرجر قدميها يوماً بعد الآخر، تأمل في الاحتفاظ ببعض حواسها لحين عودتهم، تخشى الخرف فلا تعرفهم، وتخشى الزمن فلا يعرفونها: "عم حاول ما فكر، مشان ما إغرق باليأس، يمكن لسه في أمل، بجوز ما لحق عيشو أو أعرفو، بس لسه في أمل". السيدة مساء مسنة في الثانية والسبعين، سافر كل أبنائها خارج البلاد، تفتقدهم وتفتقد الأحفاد الذين صاروا شباباً في غيابهم؛ رفضت السفر إلى مكان لا تعرفه، ولا تحفظ حاراته، ولا تميز لهجات أبنائه، لكن الأهم أنها تخشى الموت في بلد غريب، وتخشى الموت وحيدة غريبة في بلدها