من سيرة نفط دير الزور بعد الثورة

مواقف القوّى والفعاليات المؤثرة

(مادةٌ مأخوذةٌ من دراسةٍ عن النفط في المحافظة، منذ خروجه ومنشآته عن سيطرة النظام وحتى الآن. أعدّها فريقٌ من الباحثين. وتصدر قريباً عن "عين المدينة")

موقف المجلس العسكريّ وقادة التشكيلات الهامة في الجيش الحرّ

أمام إلحاح مجموعةٍ من المهندسين العاملين في قطّاع النفط، عُقد، في الشهر العاشر من عام 2012، اجتماعٌ خاصٌّ للبحث في قضية النفط، في قرية بريهة، 30 كم شرقيّ دير الزور. وحضر الاجتماع كلٌّ من المقدّم محمد العبود، قائد المجلس الثوريّ العسكريّ في حينه، والمقدّم مهند الطلاع، قائد المجلس العسكريّ في حينه، إضافةً إلى ضباطٍ من المجلسين، وقادةٍ بارزين لكتائب وألويةٍ من الجيش الحرّ. وحضره أيضاً أعضاء الهيئة الشرعية العليا، وهي الصيغة الجديدة آنذاك للهيئة الشرعية الخاصّة بالمجلس الثوريّ العسكريّ، والمشكّلة فور إعلان تأسيسه وانفصاله عن المجلس العسكريّ. قدّم المهندسون عرضاً لواقع حقول ومنشآت وآبار النفط، التي تتعرّض، بشكلٍ يوميٍّ، لأعمال النهب والسرقة والتعدّي. وطالبوا قادة المجلسين، ومن معهما، بوضع خطّةٍ فوريةٍ لحماية هذه المنشآت. وحذّروا من التفكير في تشغيل أو استثمار الآبار الخارجة عن سيطرة النظام، وكذلك تلك التي يُتوقع خروجها في وقتٍ قريبٍ، نظراً لما يحتاجه هذا التشغيل من إمكانياتٍ فنيةٍ لن تتوافر في بيئات العمل الحقلية بعد خروجها عن سيطرة النظام. كما حذّروا من النتائج البيئية الخطرة لأيّة طرق تشغيلٍ غير تلك المعتمدة لدى شركات النفط المختصّة، وفي الظروف الطبيعية للعمل. وذهب أعضاء الهيئة الشرعية العليا إلى عدم جواز استثمار أية جهةٍ للثروات النفطية قبل ضمان التوزيع العادل للواردات على جميع المسلمين. وجد القادة العسكريون في رأي الشرعيين طوق نجاةٍ يعفيهم من أية التزاماتٍ إضافيةٍ تلقى على كاهلهم فوق ما يكابدونه من جهدٍ وانشغالٍ بقتال قوّات الأسد، فلم يقدموا على تلبية مطالب الفنيين بضرورة حماية المنشآت، لأسبابٍ عدّة، يلخّصها محمد العبود بما يأتي:

- عجز القوى العسكرية الثورية عن القيام بأية أفعالٍ حاسمةٍ وجذريةٍ لحماية المنشآت النفطية وإدارتها، بسبب انشغالهم بمجريات الصراع مع قوّات الأسد.
- الاعتقاد بالسقوط الوشيك للنظام، ثم مجيء سلطةٍ جديدةٍ تقوم هي بواجباتها تجاه قطّاع النفط وغيره من القطّاعات.
- الخشية من تلطخ سمعتهم بشبهات الاستفادة الشخصية من النفط، نتيجة اتهام جميع العاملين به آنذاك باللصوصية.

انتهى اجتماع بريهة إلى لا شيء. وكذلك انتهى غيره من اجتماعاتٍ شبيهةٍ حاول منظّموها حشد القوى العسكرية الفعّالة في موقفٍ موحّدٍ تجاه الثروة النفطية. لتستعر بذلك حمّى الاستحواذ والاستفادة من هذه الثروة. ولتقع، شيئاً فشيئاً، كثيرٌ من الشخصيات والقوى العسكرية والدينية تحت إغراء النفط. وهي التي أنِفت، بمعظمها، عن الاقتراب منه أوّل الأمر. إذ قاد بعض أعضاء الهيئة الشرعية العليا -بعد انشقاقهم عنها إلى هيئاتٍ وتشكيلاتٍ جديدةٍ- جهوداً جماعية للسيطرة على آبار نفطٍ لم توزَّع وارداتها أبداً بشكلٍ عادلٍ أو منطقيٍّ على «جميع المسلمين» أو على بعضهم. ولم يجد بعض القادة العسكريين، ممن كرهوا تلطخ سمعتهم بالنفط، بدّاً من السيطرة على آبارٍ ومنشآتٍ، بنوايا حسنةٍ تجاه الصالح العامّ في البداية، قبل أن تفعل المعطيات الفوضوية والمعقّدة والمتغيّرة في آنٍ واحدٍ فعلها، ليتحوّل بعض القادة، وبعض التشكيلات العسكرية السبّاقة في الثورة، من جبهات القتال مع النظام إلى جبهات الدفاع عن آبار النفط. فيما تمكن قادةٌ آخرون من التعامل بواقعيةٍ وحكمةٍ مع تلك المعطيات، فنجح لواء جعفر الطيار -مثالٌ من أمثلةٍ كثيرةٍ- وهو تجمّعٌ لعشرات الكتائب متفاوتة الحجم والانضباط، في بعض المرّات التي استولى فيها على منشآت نفطٍ، في تسخير جزءٍ من وارداتها لصالح العمل العسكريّ. وفي حالاتٍ أخرى لم يذهب شيءٌ من هذه الواردات لصالح المعركة، بسبب بعض الكتائب التي كانت تفتقر إلى الالتزام والإحساس الكافي بالانتماء إلى اللواء، واستأثرت بالمنشأة لصالحها فقط، ولصالح العشيرة أو الفخذ العشائريّ الذي ينتمي إليه معظم أفراد هذه الكتيبة.

وظهر أثرياءٌ جدد على الآبار وبحيرات النفط الصغيرة التي تغذّي أرتال الصهاريج المصطفّة للشراء. ولما لم تعد طريقة عدّ الأوراق المالية على مستوى وارداتهم، لجأوا إلى وزنها بالميزان! أموالٌ لم تنفَق، إلا في جزءٍ ضئيلٍ جداً منها، لصالح قتال نظام الأسد، أو لإطعام الجائعين الهائمين على وجوههم في المدن، أو لإسكان النازحين من وحشية النظام في مكانٍ يليق بالبشر، أو لمداواة الجرحى؛ بل أنفقت على مراكمة السلاح والسيارات والزوجات، وبناء دور السكن الجديدة وشراء العقارات، وغير ذلك من أوجه الإنفاق التي لم تكن تليق في محافظةٍ ناميةٍ في الأصل مثل دير الزور. أما الأكثر حكمةً بين أثرياء النفط فتوجّهت أنظارهم نحو الخليج أو تركيا أو بلدانٍ أخرى، بإخراج الأموال إليها وادّخارها هناك.

موقف العشيرة

انطلقت معظم المكوّنات العشائرية من مصالحها الخاصّة في تعاملها مع الثروات النفطية، وبحسب ما يتيحه التموضع الجغرافيّ لها. إذ سعت كلّ مجموعةٍ عشائريةٍ أو فخذٍ إلى الاستيلاء على الآبار القريبة من محلات إقامتها في ريف دير الزور، تحت مزاعم وقوع هذه الآبار في أراضيها أو في امتداد هذه الأراضي نحو البراري المفتوحة في جزأي «الشامية» و«الجزيرة» جنوب وشمال نهر الفرات، وكذلك شرق وغرب نهر الخابور –في أراضي الجزيرة- بالنسبة إلى العشائر التي تسكن ضفتيه.

نجحت العشيرة في أن تكون المستفيدة الأولى من النفط، سواء أكانت بصورة كتيبةٍ من الجيش الحرّ، تتكوّن من أبناء هذه العشيرة في معظم أفرادها، أم بصورتها المباشرة كأفخاذٍ وأجزاءٍ من أفخاذ، تتناوب على استثمار البئر وفق تفاهمات تقاسم الحصص فيما بينها. ثم تقسم كلّ حصّةٍ من جديدٍ داخل الفخذ على الأسر المنتمية إليه، بحسب عدد الأفراد من الذكور في حالاتٍ، وعددهم من الذكور والإناث في حالاتٍ أخرى. وكانت معظم تفاهمات المحاصصة العشائرية تلك قلقةً وهشّةً بتأثير المطامع والتنافسات ونزعات الاستحواذ والسيطرة التي أدّت، وفي عشرات الوقائع، إلى نشوب صراعاتٍ داميةٍ بين هذه المجموعات، سقط فيها قتلى وجرحى، وأُحرقت فيها آبارٌ ونفطها المتجمّع في خزّاناتٍ ترابيةٍ مكشوفة.

fs

مواقف الهيئات والمكاتب الشرعية

رغم التحوّلات والتغيّرات المختلفة التي لحقت بالأجسام الشرعية أو تنظيماتها، وما رافق ذلك من تغيّرٍ في مواقف بعض أفراد هذه الأجسام تجاه النفط؛ يمكن تصنيف النشاط الشرعيّ الدينيّ العامّ وقتها إلى ثلاثة أشكالٍ رئيسيةٍ، هي:

- الهيئات والمكاتب الشرعية التابعة لبعض الفصائل والتشكيلات العسكرية.
- الهيئات والمكاتب الشرعية –والقضائية في بعض الحالات- التابعة للمجالس المحلية.
- الهيئات الشرعية المستقلة؛ بنوعيها المقتصر في نشاطه على مدينةٍ أو بلدةٍ أو قريةٍ بعينها، أو ذلك الذي يغطّي نطاق عمله مجموعة قرىً وبلداتٍ متّصلةٍ جغرافياً.

وتمكن إضافة تجمّعاتٍ صغيرةٍ أسّسها بعض طلاب العلم الشرعيّ في كلٍّ من مدينتي الميادين والبوكمال إلى اللوحة السابقة.

لم يكن للتنظيمات الشرعية السابقة موقفٌ موحّدٌ وثابتٌ تجاه قضية النفط. وقد سارع بعضها إلى تحريم العمل فيه بذريعة استحالة التوزيع العادل على الجميع. وتلحظ الصبغة الدينية التقليدية (اللا حركية) لمعظم القائلين بهذا الرأي. ويلحظ كذلك خلوّ النطاق الجغرافيّ لعمل بعض هذه الهيئات من أيّة مواقع نفط. وكانت لتنظيماتٍ أخرى مواقفُ أكثر واقعيةً أفتت بجواز استثمار النفط بشرط تسخير وارداته للصالح العامّ، عسكرياً ومدنياً. فيما لم تتردّد التنظيمات الشرعية ذات الصبغة السلفية الحركية في حضّ التشكيلات العسكرية المتأثرة بها على العمل بالنفط. بل وتدخلت مباشرةً، في كثيرٍ من الحالات، لتنظيم هذا العمل. ولاذت هيئاتٌ شرعيةٌ أخرى بالصمت فلم تصدر فتوى في هذا الخصوص، قبل أن تتجرّأ وتطالب بحصّةٍ صغيرةٍ من واردات النفط لتوزّعها على الفقراء والمحتاجين في مناطقها.

وتراوحت استجابة الفصائل والتشكيلات العسكرية، التي تضمّ شرعيين في صفوفها، للفتاوى التي يصدرها هؤلاء الشرعيون، بحسب درجة التزامها الثورية والدينية. كما هي الحال مع جبهة الأصالة والتنمية (فرع دير الزور)، حين امتنعت الفصائل المشكّلة لها –آنذاك- عن الاستفادة من النفط في خزّانات وأنابيب المحطة الثانية (T2)، إثر سيطرتها عليها في آذار 2013، بتأثيرٍ من فتوى أطلقها شرعيوها في دير الزور، قيّدوا بها الاستفادة من النفط باشتراطاتٍ صعبة التحقق، وقبل أن تتعرّض الجبهة لانشقاقاتٍ عدّةٍ تغيّر خلالها موقف الفصائل المنشقة وشرعيّوها تجاه النفط. فارتبط أحد أشهر الآبار في بادية الجزيرة بلواء أهل الأثر المنفصل عن الجبهة، فيما ثبت لواء بشائر النصر، الذي واصل العمل تحت مظلة جبهة الأصالة والتنمية، على موقفه بتحريم الاستفادة من النفط.