مدينة الباب بين الاحتلال والتحرير (القصة الكاملة)

تبعد مدينة الباب عن مدينة حلب 38 كيلومتراً من الجهة الشمالية الشرقية. ويرجح أنها تعود إلى العهد الروماني، وقد فتحت عام 16 هــ على يد حبيب بن مسلمة الفهري في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. يقدّر عدد سكانها بـ170 ألف نسمة عام 2011، وفق إحصائية غير رسمية. وهي ذات أغلبية مطلقة من العرب السنّة، عدا بضع عائلات كردية وتركمانية قدمت من الريف.

نداء الحرية

استجاب أبناء المدينة سريعاً لصيحات الكرامة، وتمكنوا في الثامن من نيسان 2011 (جمعة الصمود)، بعد عدة محاولات فاشلة، من الخروج في أول مظاهرة من جامع الريحاوي وسط المدينة -دمّره القصف الرّوسي 2016- هتفوا فيها لدرعا وجابوا الشوارع الرئيسية، وقُدّر عدد المشاركين فيها بـ1500 شخص.

توسّعت المظاهرات وازدادت أعداد المتظاهرين. وفي الشهر الخامس هاجمت قوات الأمن مظاهرة حاشدة خرجت من جامع أسامة بن زيد، وفُرّق المتظاهرون بالعصيّ واعتقل عدد منهم. وبعد ساعات تجمع 13 شخصاً أمام مفرزة الأمن الجنائي مطالبين بإطلاق سراح المعتقلين. لم يستجب الأمن بل هاجم المعتصمين، وما هي إلا ساعات قليلة وإذ بمئات المعتصمين –3 آلاف وفق تنسيقية الباب- يجتمعون أمام المفرزة، ما دفع الأمن إلى الاستجابة وإطلاق المعتقلين بعد ساعات.

بعد أيام حضر محافظ حلب ورؤساء الفروع الأمنية فيها إلى الباب، ودعوا ثلاثين شخصاً من أبنائها للقاء ولمناقشة مطالبهم. رفض 28 من المدعوين الحضور، ولم تتعدّ مطالب الحاضرين تحسين الخدمات (تعبيد الطرق وبناء شبكات صرف صحي). وبعد أيام تلقى المتخلّفون عن الحضور دعوة لمراجعة الأفرع الأمنية.

استنفار أمني

استمرت المظاهرات بطابعها السلمي، ونقلت على الهواء مباشرة، ورافقتها حملات البخ على الجدران وغيرها من النشاطات الثورية. كل ذلك دفع الأمن إلى استقدام تعزيزات لقمع المظاهرات ومواجهتها، فتوزعت باصات «حفظ النظام» على أبواب جوامع المدينة الرئيسية كل يوم جمعة. لكن ذلك لم ينجح في وأد المظاهرات، فلجأ الأمن إلى أفراد من عائلة «خلّو» على خلفية عضوية أحد أبنائها في مجلس الشعب، وقام بتسليحهم بـ«البومبكشن» لقمع المظاهرات، إلا أن عائلات كبيرة في المدينة وقفت في وجههم وحصل اشتباك بالأيدي لم يتطور إلى استخدام السلاح. وإثر ذلك انتهت ظاهرة «التشبيح» في مدينة الباب إلى غير رجعة، إلا أن حملات الاعتقال وإطلاق الرصاص على المتظاهرين لم تتوقف.

دخول السلاح على خط المواجهة

بعد عام كامل من التظاهر السلمي، سقط خلاله العشرات برصاص الأمن، بدأت حالة من الغليان تسود المدينة. وفي جمعة (سننتصر ويهزم الأسد) 20/ 4/ 2012 بدأت أولى مظاهر العسكرة، فقد شوهد ستة مسلّحين لأول مرة في مظاهرات الجمعة. هاجم الأمن المتظاهرين كالعادة وبدأ بإطلاق النار واستشهد ستة مدنيين، فبادر الثوار إلى الرد وقتلوا عدداً من قوات الأمن، فيما استشهد اثنان من حملة السّلاح. ازداد التوتر بعدها، وعلى خلفية الحادثة اجتمع وجهاء المدينة مع مندوبين عن الأمن واتفقوا على اقتصار وجوده على المربع الأمني، شريطة انسحاب مسلّحي الثوار إلى خارج المدينة.

التحرير الأول

استمر هذا الحال حتى 18/6/2012، عندما شهدت المدينة مظاهرة بالآلاف. وبعدها بأربعة أيام تقدّمت قوة لجيش النظام لأول مرة، منطلقة من معسكر لها عند مدخل المدينة، والتفّ العناصر على مظاهرات الجمعة وفتحوا النار على المتظاهرين بمساندة الطيران المروحي. استشهد يومها الطفل عبد الله كشّة ذو العشرة أعوام، وكانت نقطة فاصلة؛ إذ أعلن بيان مصوّر عن تشكيل كتيبة شهداء الباب، ظهر فيه قرابة 20 مسلحاً ملثّماً.

بعد شهر من الحادثة هاجمت أفواج من المدنيين مقرات أمنية داخل المدينة واستولوا على بعضها، فانسحب عناصر المخابرات الجوية والأمن العسكري وتحصّنوا داخل مبنى البريد، ووصل أفراد من الجيش الحر للمشاركة في المعركة. استسلم بعض عناصر الأمن سريعاً فيما قاوم آخرون بشراسة، بل إن قسماً منهم نزلوا إلى الطابق السفلي من المبنى لتسليم أنفسهم فباغتتهم قنبلة يدوية من زملائهم في الأعلى وأردتهم جميعاً. استمرت المعركة، والمؤازرة بقصف مدفعي من معسكر النظام على تخوم المدينة، 48 ساعة. وبتاريخ 19/7/2012 تمكن الجيش الحر من الحسم بعد قتل القناص –قيل إنه إيراني– المتمركز على سطح البريد بقنبلة يدوية، لتنتهي المعركة بعد استشهاد أكثر من 17 مدني وعدد من الثوار. اعتلى بعض الأهالي المنفعلين سطح البريد وأخذوا برمي جثث قتلى النظام، في ردة فعل لقتلاهم الذين سقطوا برصاص القناص، فادعى النظام أن ثوار الباب قاموا بإلقاء موظفي البريد من السطح وهم أحياء لأنهم رفضوا الانشقاق! بعد عشرة أيام طُرد النظام من مدرسة الزراعة، آخر معاقله في المدينة، لينتهي دور الجيش الحر فيها وينتقل إلى معارك تحرير مدينة حلب.

إدارة مدنية

قبل التحرير بأسابيع شُكّل المجلس المحلي لمدينة الباب الذي يعدّ من أوائل المجالس المحلية في سوريا. بدأ المجلس بممارسة دوره على الأرض، ثم تم توسيعه بعد مشاورات بين القوى الثورية والفصائل العسكرية. واجه المجلس تحديات كبيرة في إدارة المدينة وتخديمها إلا أنه استطاع، إلى حد ما، تأمين خدمات جيدة في القطاعين الصحي والتعليمي وغيرهما. ويقول باري عبد اللطيف، أحد مؤسسي تنسيقية الباب وضواحيها: «كان لنا دور كبير في تفعيل الحراك المدني والثوري، ولم يكن أي قرار يخص المدينة يمرّ إلا بعد توقيعنا عليه».

أبرز الوجوه

قدمت الباب وجوهاً ثورية بارزة وقادة كان لهم وزنهم وتأثيرهم، من أبرزهم الإعلامي الشيخ زاهر الشرقاط، والقائد العسكري ياسر عثمان (أبو الشيخ)، وشيخ المجاهدين محمد طيب الغزال (أبو الطيب) ذو الثمانين عاماً مع أبنائه، وسلام عثمان، وغيرهم ممن لا يتسع المجال لذكرهم. كما قدم أهالي المدينة العديد من الشهداء في معارك تحرير اعزاز وجرابلس ومدينة حلب وغيرها، وكانوا من أوائل من انتصر للقصير وأرسلوا قواتهم إليها، كما هبّوا بأموالهم وأبنائهم للدفاع عن مدينة حلب بعد كارثة سقوط اللواء 80.

سيطرة داعش

في أيلول 2013 تقدم رتل لداعش نحو الباب فاستوقفته الفصائل سائلة عن الوجهة فردّ: وجهتنا الطّبقة بريف الرقة. إلا أنه توجه إلى أوتوستراد منبج، ومنه إلى بزاعة، ثم التفّ في اليوم التالي من جهة الشرق ودخل الباب من الخلف وسط هتافات «دولة الإسلام باقية».

وبدأت مضايقات الناشطين واتهام الفصائل بالردة والعمالة، وبث شعارات «تحكيم الشرع» ومحاربة اللصوص والمفسدين، كما بدأ شرعيّو داعش بالاستيلاء على المساجد والمنابر. وسادت حالة من التذمر بعد مهاجمة وقتل بعض أفراد الجيش الحر والسيطرة على مقراتهم بدعاوى مختلفة.

اتخذ التنظيم من مدرسة البحتري مقراً له وطالبه الأهالي بالخروج منها لمتابعة التعليم فيها. ثم تعرض المشفى الميداني الملاصق للمدرسة إلى قصف أودى بحياة 13 شخصاً جلّهم أطباء، ما دفع الأهالي إلى التظاهر ضد وجود التنظيم، لكنهم قوبلوا بإطلاق الرصاص في الهواء. تدخلت بعض كتائب الجيش الحر وساندت المدنيين، مما أدى إلى إصابات بين الطرفين، وتفاقمت الأمور إلى أن تدخلت جبهة النصرة وحركة أحرار الشام، وتم الاتفاق على انسحاب داعش إلى أطراف المدينة، لكنها ظلت تتردد إليها لتخطف بعض الأشخاص الذين لم يعرف مصيرهم حتى الآن، ومن أبرزهم أفراد كتيبة النصر مع قائدها «عمر أبو عبيد».

وفي مطلع كانون الثاني 2014 وصل رتل لـ«عمر الشيشاني» إلى قرية «الشماوية» التي تبعد 3 كم عن الباب، بعد اتفاق مع أبو خالد السوري القيادي في أحرار الشام، سمح بموجبه للتنظيم بالمرور من أمام مطار «كشيش» العسكري الذي يسيطر عليه الأحرار. سرعان ما طوّق الرتل الباب، وسيطر على صوامع الحبوب، أتبعها بتفجير مفخخة عند مدخل المدينة، كما استطاع خلال ساعات السيطرة على «تادف» المحاذية دون أدنى اشتباك. بدأت حرب عصابات داخل الباب في معركة غير متكافئة، فعناصر داعش منظمون ومن المقاتلين الأجانب فقط، أما الحر فمعظمهم من رجال الشرطة والأمن العام داخل المدينة، إذ كان معظم المقاتلين مشغولين بمعارك خارجها، كما أسهم تردد بعض الفصائل في قتال التنظيم في إضعاف الجيش الحر. وبسطت داعش سيطرتها على المدينة في الثالث عشر من كانون الثاني 2014

شعبية داعش في الباب

تُعدّ الباب من أكثر المدن والقرى المحافِظَة، وقد خرّجت عشرات العلماء والمشايخ، ويشكل أبناؤها أكبر نسبة من طلاب الثانويات الشرعيّة بين المدن والقرى المجاورة. ولذلك رحّب البعض بالتنظيم بداية الأمر، إلا أن الأيام كانت كفيلة بكشف حقيقته وتعرية شعاراته المزيفة. ومرّت أيام وشهور وبدأ بعض أبناء المدينة يدفعون آلاف الدولارات للمهربين لإيجاد طريق آمن لهم للخروج منها!

أطراف مدينة الباب بعد التحرير - خاص

التحرير الثاني

في 23 شباط 2017 تمكنت فصائل الجيش السوري الحر -المدعومة تركيّاً- ضمن المرحلة الثالثة من عملية «درع الفرات»، من طرد داعش من مدينة الباب، أبرز معاقلها شرقيّ حلب.

لم يكن تحرير الباب سهلاً، فقد حاولت داعش -خلال خمسة أشهر من المواجهات- تثبيت خطوط دفاعها عبر تكثيف الألغام والمفخخات والأنفاق بين الأحياء، ما أعاق تقدم الثوار بشكل كبير، إضافة إلى استخدامها الصواريخ المضادة للدروع وتدميرها العديد من الدبابات والآليات التركية والسورية، في حين لم يُبْد التنظيم، على الجانب الآخر، مقاومة تذكر لقوات النظام التي دخلت عشرات القرى حول الباب دون خسائر ولا مفخخات.

يقدّر عدد شهداء الباب بـ1900 قبل دخول التنظيم، وبعد سيطرته تجاوز العدد 4 آلاف نتيجة القصف والإعدامات، بعد تقدّم درع الفرات استشهد قرابة 480 من أبناء المدينة معظمهم مدنيون جراء القصف والمعارك وانفجار الألغام من مخلّفات داعش.