مبادرة مجلس القضاء الحرّ المستقلّ في حوارٍ مع المستشار قيس الشيخ

حاوره خليل عبد الله

المستشار قيس الشيخ قامةٌ قانونيةٌ عريقة. وقد تدرّج في مناصب القضاء حتى وصل إلى منصب مدير إدارة التشريع السورية، إضافةً إلى عمله كمفتّشٍ قضائيّ. ثم طلبت وزارة العدل العمانية ندبه إليها للإسهام في وضع تشريعاتٍ قضائية، حيث عمل مستشاراً قانونياً لوزارة العدل هناك حتى عام 2008. اعتقل الشيخ لأيامٍ في آب 2011، بسبب موقفه المؤيّد للثورة.

س1- تنطلق أية مبادرةٍ من واقعٍ قائم، فما هو تصوركم للواقع الذي قاد إلى خلوّ المناطق المحرّرة من المحاكم؟
ج1- حال انسحابه من المناطق المحرّرة، قام النظام بسحب كل الإدارات الخدمية. وكان من أهم أهدافه ترك فوضى عارمة، ليستطيع من خلال دعايته ومن يسانده أن يطرح مزايا العيش في ظل عبوديته مقارنةً بما سيصير إليه الحال، لأنه عاجز عن بيان أية مزيةٍ لنظامه بعد أن تكشفت دولته الأمنية وحكم العائلة وتوجهه الطائفيّ وفساد أشخاصه. وانسحب معه عددٌ من القائمين على هذه المؤسسات خشية من محاسبةٍ أو دفاعاً عما اكتسبوه، كما أن بعضهم انسحب تحت هاجس الأمان ولقمة العيش التي يوفرها راتبه، بعدما لاحظ غلوّ النظام في الإجرام وقصف المناطق المحرّرة وقطع راتب كل رافضٍ له. ولهذا خلت هذه المناطق من المحاكم ومن القضاة ومن الأجهزة المساعدة للعدالة أو المنفذة لأحكامها.

س 2- وكيــــف ردّت القــــوى الثــــــورية علــــى ذلك لجــهة القــضاء؟
ج 2- كان الردّ تدفع إليه الحاجة أكثر مما يدفع له تخطيطٌ منظمٌ مبنيٌّ على أساسٍ مدروسٍ واحد. وكان يتنوّع ويتفاوت بمقدار ما تتنوع الحاجات أو تتفاوت المعارف، خاصةً في ظلّ عدم وجود قيادةٍ واحدة. ففي مناطق صغيرةٍ اختار الناس من يثقون فيه ويعرفون حكمته فرداً أو أفراداً ليحكموا في منازعاتهم ويفصلوا في أحوالهم الشخصية من طلاقٍ وزواجٍ وغيره. وفي مناطق أخرى، قامت فيها مجالس محلية، اختارت المجالس من يفصل في الخلافات. وفي مناطق سيطرت عليها كتائب مسلحةٌ للثوّار نصّبت هذه الكتائب هيئاتٍ لتقوم بمهمة القضاء. وكان الاختيار يقع على رجال الدين والأئمة في الغالب، لافتراض الناس الحياد والحكمة والمعرفة فيهم، ولمعرفة الكافة بهم، ولما وقر في النفوس من احترام الشريعة والعمل بأحكامها. وقد كان لهذا التوجه سندٌ شرعيٌّ في الفقه الإسلاميّ الذي يوجب، في حال سقوط سلطان الدولة، أن يتنادى الناس ليقيم أهل الحل والربط قضاةً يفصلون في خلافاتهم من العلماء، ويعتبر ذلك قضاء ضرورةٍ مرهوناً بقدرها وبوقتها. ولهذا قامت في أغلب المناطق المحرّرة هيئاتٌ شرعيةٌ من قضاةٍ أغلبهم من الأئمة والخطباء، يضاف إليهم محامون من ذات التفكير والتوجه. وكان من الطبيعيّ أن غالب هؤلاء الإخوة لا يتقن الإجراءات القضائية ولا شكل الأحكام ولا قواعد التوثيق ووسائل التحقيق ولا قواعد الاختصاص المكانيّ أو الزمانيّ. كما أن هذه الهيئات لا تخضع لمراجع طعنٍ ولا لقانونٍ مكتوب، بل تعتمد اجتهادات أفرادها، وهي ليست اجتهاداتٍ صحيحةً دوماً. كما أن هذه الهيئات لم تكن أحياناً تخلو من تأثرٍ بمن نصّبها أو العمل لمصلحته، وإن كان المجمع عليه أنها ما اتهمت برشوةٍ أو فسادٍ كما كان الحال في ظلّ النظام. فكلّ ما ينسب إليها جهلٌ بقواعد الأحكام، وأحياناً جهلٌ بما تقرّر في الراجح بالشريعة والتوجه لمذهبٍ أو لرأيٍ فيه.

س 3- مـــاذا فـــعلت القـــوى الثــــورية لتجـــاوز هـــذه الــــحالة وتصحيحـها؟
ج 3- لقد عملت القوى الثوريّة باتجاهاتٍ متعدّدةٍ لتجاوز هذه المخاطر؛ فقد تداعى عددٌ من القضاة والمحامين وخريجي الشريعة في حلب لاجتماعٍ ناقشوا فيه مسألة عدم وجود قانونٍ موحّدٍ يلتفّ الكلّ حوله، ولاحظوا أن إجماعاً شبه كاملٍ برفض تطبيق قوانين النظام، لأنها في غالبها مستمدةٌ من القانون الفرنسيّ. وعليه كان لا بدّ من بديلٍ يرضي الجميع ويوحّد رؤاهم، ووجد هؤلاء الإخوة في القانون العربيّ الموحّد، الذي أقرّه مجلس وزراء العدل العرب، ما يفي بالغرض، لأسبابٍ منها: أنه مستمدٌّ من الشريعة الإسلامية دين الأغلبية، ومن الراجح فيها، فلا يعارضه الداعون لتطبيقها. وأنه قانونٌ عربيٌّ ونتاج أمةٍ ممثلةٍ فيها كلّ المذاهب والتيارات. وأنه راعى كلّ ما كشفه العلم وتجارب الأمم. ولأنه مقنّنٌ بنصوصٍ واضحةٍ فيوحّد الأحكام ولا يترك مجالاً للاجتهاد. واتفقوا على تطبيقه في حلب، وهي عماد القضاء السوريّ، مثلما كانت دمشق عماد الدبلوماسية. ثم تنادت ثلةٌ من الحقوقيين لإقامة معهدٍ للقضاء يدرّبون فيه قضاة الهيئات الشرعية (قضاة الضرورة). وهم يجمعون في التدريب بين خريجي كليات القانون وخريجي الكليات الشرعية. كما بينوا معنى قضاء الضرورة وطبيعته وظرف قيامه. ولا أدّعي أن ذلك كان كاملاً، ولكن المعروف أن ما لا يُدرك كُلُّه، لا يُترك جُلُّه. وأن الإمكانات هي التي تحكم الأعمال لا الآمال.

س 4- ما عـــلاقة الـــمبادرة بما تقدّم ولمـــاذا تأخرت إلى الآن؟
ج 4- مما لا شك فيه أن قيام قضاءٍ مستقلٍّ حياديٍّ هو أمل الأمة بعد كل ما عانت، وأن قيام العدل - وخاصةً في المناطق المحرّرة - هو الوسيلة الأمثل لالتفاف القاعدة الشعبية حول الثورة، وهو الطريق للردّ على ظلم النظام وتقديمٍ نموذجٍ عمليٍّ للمستقبل الذي نريد. ولكن ما كان ممكناً أن تقوم المبادرة حين قيام الثورة، إذ لم يكن متوقعاً أن يواجها النظام بإجرامٍ لا حدّ له، ولا كان معروفاً كم أثر من لبس لباسها ويعمل لتفريق صفوفها وغموض إرادتها، وكم ستطول مدّتها والحاجات التي ستفرضها. ومع ذلك فأن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي.

س 5- أين وصلتم في تنفيذ مشروعكـــم وما هي الخطوات القادمة؟
ج 5- لا بدّ أن أوضح هنا أنه صحيحٌ أن الأخوة قد تكرّموا بمناقشتي في هذا المشروع قبل إعلانه، ولكنه يبقى مشروعهم. وصحيحٌ أن هذه الفكرة دارت بين أذهان كثيرٍ من الحقوقيين، وربما عملوا من أجلها وتناقشوا في آلياتها، ولكن من وضعها بصيغتها هذه هو مجلس القضاء الحرّ المستقل. ولا أكشف سراً إن قلت إنه حينما طرح الأخوة أن يكون اسمي في اللجنة رفضت رفضاً قاطعاً ورجوت أن لا يتم ذلك، مع استعدادي للمشاركة في كلّ حوارٍ أو عملٍ يخدم الأهداف. فلقد آليت على نفسي – وأكرر إعلانه على صفحتكم الغرّاء – أن لا أتولى منصباً لا في الثورة ولا بعد نصرها. ولكن إصرارهم على أن ذلك حوارٌ وليس منصباً، وأن التخلف عنه يعني الفرار من العمل وتحمل الأعباء، دفعني إلى القبول بأن أكون واحداً منهم. وبالطبع فإن الخطوة القادمة، بعد اختيار الفئات المدعوّة لممثليها، سيكون انعقاد اللجنة، التي سيرافقها بالاجتماعات هيئة متابعةٍ وتقييمٍ من كلّ التيارات والشخصيات العامة والتكتلات والتجمعات والنقابات والمهتمين تحضر الاجتماعات، ولها تقديم مذكراتٍ برأيها دون أن تشارك شفهياً بالحوار. وستكون المذكرات والحوارات علنيةً متاحةً للجميع. وسيكون من مهام اللجنة وضع النظام الداخليّ الذي سيحدد المشاركين بشكلٍ نهائيّ.

س 6- هل تعاونت معكم الحكومة المؤقتة ممثلةً في وزارة العدل؟ وما هي حدود العمل والاختصاص لكلٍّ من مجلس القضاء والوزارة؟
ج 6- أعرف أن وزارة العدل مدعوةٌ لتكون طرفاً في الاجتماعات، وربما أُرسلتْ إليها الدعوة ولكنها لم تردّ. بل ينقل لي بعض الإخوة في مجلس القضاء أنها تعمل جاهدةً على إسقاط الهيئة. ولا أجزم بذلك بدقةٍ ولم أتحاور مع الوزير أو رئيس الحكومة حول هذا، ولكني أعرف من حواراتٍ سابقةٍ أن الوزارة ترغب في بقاء الأنظمة السابقة التي سنّها النظام نافذةً إلى حين قيام جهاتٍ تمثيلية، بداعي الشرعية القانونية. وهي أمرٌ لا يُستند إليه في الشرعية الثورية أو في الواقع القائم أو الأمل المرجوّ، فلا مجال للعودة إلى أنظمة الاستبداد حيث تقيم الحكومات السلطة القضائية وتتبعها لها. ومع ذلك أتمنى أن يحضروا ويقولوا رأيهم علناً ويحاوروا فيه. وأعرف أنه من حوالي عامٍ تقدّمت جهةٌ مهتمةٌ بالقضاء بمشروع هيكلةٍ لمجلس جهات القضاء وآخر للوزارة، وقدّم للحكومة وللائتلاف، إلا أن مشاغلهم على ما يبدو قد حالت دون أيّ نقاشٍ له أو دعوةٍ للحوار حوله. وما زلت أتمنى أن تنهض وزارة العدل لتتبنى المبادرة وتعمل على إنجاحها، لا أن تأسرها ذاتية أنها طالما ليست منها فعليها حربها.

س 7- لماذا هذه الانســـــحابات من مجلــــس القضاء الحرّ المستقل؟
ج 7- بعد إعلان الإخوة في مجلس القضاء الحرّ المستقل عن مبادرتهم، قامت وزارة العدل باتصالاتٍ مع القضاة عن طريق زملائهم الذين عيّنتهم في الوزارة برواتب لم يفصح عنها، وبوظائف تتجاوز قدمهم الوظيفيّ بعشرات المرات. ثم بدأت عن طريق موظفيها هؤلاء بشنّ حملةٍ بين القضاة لإسقاط مجلس الإدارة الذي أيد المبادرة في الانتخابات التي ستجري هذا الشهر، تمهيداً لإعلان الانسحاب من المبادرة. واستغلت الوزارة أنها تدفع للقاضي المنشقّ 500 دولار شهرياً، وهي الآن المورد الوحيد لهم، وأنها توظف من تريد منهم دون أيّ معيارٍ واضح. ووجد القضاة المستقيلون في ذلك تدخلاً مفضوحاً وغير مبرّرٍ لمحاربة دعوةٍ جامعةٍ لتأسيس قضاءٍ مستقلٍّ فاستقالوا. ولا يسعني إلا أن أستغرب موقف الوزارة. ولا أدري هل هي الحجة الدائمة الغامضة... المجتمع الدولي لا يريد!!!...