كنيسة البوكمال

جانب من الكنيسة |عدسة نوار

بحسب الشبكة السورية لحقوق الإنسان، بلغ عدد الأبنية التي تضرّرت، بفعل الحرب الغاشمة التي تشنها قوات الأسد على المدن والقرى السورية، أكثر من ثلاثة ملايين. بينها 1541 مسجداً، وثلاثٌ وثلاثون كنيسة، تتوزّع على عدة محافظات.
ولم يذكر أحدٌ كنيسة القديس "يوحنا بعكا" في مدينة البوكمال، والتي تعرّضت للقصف مراتٍ عديدة، مما أدّى إلى دمارٍ شبه كاملٍ فيها. وحملت مقاطع الفيديو المنشورة عبر اليوتيوب المفاجأة للكثيرين، لأنهم لم يعلموا من قبل بوجود هذه الكنيسة الوحيدة في البوكمال. إذ تندر المصادر التاريخية التي تتحدث عنها، وكل ما يمكن الوصول إليه هو مجموعة من الروايات المتواترة التي يتناقلها بعض المهتمّين من كبار السن في المدينة.

وبناءً عليها يمكن تقدير التاريخ الذي أنشئت فيه هذه الكنيسة الصغيرة، التي لا تتجاوز مساحتها مساحة غرفةٍ واسعة، في السنوات الأولى للاحتلال الفرنسي. وقد أقيمت على أرضٍ تبرّع بها رجلٌ يدعى "أبو حنا"، بجوار مبنى قيادة القوات الفرنسية. ويبدو هذا التحديد لزمن بناء هذه الكنيسة دقيقاً، وذلك بتتبع الوجود المسيحي في المدينة، والذي يمكن ربطه مع موجات النزوح العامة لسكان مدينة عانة العراقية، بعد تلاحق فيضاناتٍ كبيرةٍ لنهر الفرات المجاور لها. وتذكر المصادر التاريخية أن هذه الهجرة بدأت مع منتصف القرن التاسع عشر، ثم تتالت موجاتها إلى مدينة البوكمال، التي كانت مجرد قرية صغيرة تسمى النحامة، ثم تحولت إلى البوكمال أو "أبو كمال"، كما يصرّ بعض أبنائها على تسميتها، في إشارةٍ إلى لقب القائم مقام التركي درويش أفندي، الذي كان له الدور الأبرز في نشأة المدينة بشكلها الحالي.
ومع المهاجرين من عانة بدايةً جاء بعض سكانها من معتنقي المسيحية، ليشكّلوا أول رافدٍ مسيحيٍ لسكان البوكمال. ثم، ومع الربع الأخير من القرن التاسع عشر، جاءت بعض العائلات السريانية من الموصل وجوارها، هرباً من الصراع الدامي الناشب آنذاك مع بعض العشائر الكردية. وفي سياقٍ متصل يشير بعض المهتمّين إلى وجودٍ مسيحيٍ من نوع آخر، أو هجرةٍ أخرى إلى البوكمال، وهي هجرة عددٍ قليلٍ من العائلات الروسية، من أتباع القيصر، بعد اندلاع الثورة البلشفية على القياصرة سنة 1917. وتؤكد ذلك الأسماء الروسيّة لبعض العائلات من مسيحيي البوكمال، مثل آل "شكبازوف" وآل "كولوكوف" وغيرهم.
كنيسة-البوكمال2

وشهدت هذه الكنيسة حدثاً تاريخياً بالغ الأهمية، حين عقدت فيها المفاوضات بين "الفيشيين" من القوات الفرنسيّة التابعة للألمان في الحرب العالميّة الثانية، وبين الإنكليز. ودارت هذه المفاوضات حول انسحاب الفيشيين من منطقة الفرات الأدنى كلها، وهو ما تحقق بعد التفاوض في كنيسة البوكمال الصغيرة تلك.
وانصــــهر المكـــــوّن المسيـــحي بروافده المختلفة مع المكوّن المسلم في البوكمال، فلم تُسجّل أي حادثةٍ تعرّض فيها المسيحيون لمضايقات. ولا بدّ من الإشارة إلى أن عدد السكان المسيحيين، في أعلى فترات وجودهم في المدينة، لم يتجاوز المئات. وأول دلائل ذلك المساحة الصغيرة للكنيسة المبنية من الحجر، مع وقفٍ لباحةٍ كبيرةٍ تحيط بها. إضافةً إلى الروايات الشفوية المتناقلة عن 12 عائلة كان أبناؤها يرتادون الكنيسة بعيد افتتاحها. ويُظهر رصد حركة التنقل والإقامة أن البوكمال كانت محلّ استقرارٍ موقتٍ قبل الهجرة إلى حلب، التي استقطبت معظم مسيحيي البوكمال في بحثهم عن فرص الرزق التي لا تتوافر في مدينتهم. لتبقى الكنيسة قائمة وحدها، ولسنين طويلة خلت، إلى أن دمّرتها همجيّة بشار  الأسد الذي ما يزال يحاول تصوير نفسه على أنه "حامي الأقليات".