في دير الزور المحاصَرة، تُستبدل السيارة بكيسين من السكّر

 ألف ليرةٍ للسفر إلى دمشق

تؤمّن أربعة أفرانٍ أقلّ من الحدّ الأدنى اللازم لمئتي ألف محاصرٍ من المدنيين في الأجزاء الخاضعة لسيطرة النظام في مدينة دير الزور. وتعمل مصفاةٌ بدائيةٌ للنفط، أقيمت على بئر كان مغلقاً وأعيد تشغيله بسبب الحصار، على تزويد هذه الأفران بالوقود.

الأثمان الخيالية لكلّ شيءٍ أضحت شيئاً مألوفاً للسكان الجائعين، وكذلك تبدو قصص المقايضة، مثل مبادلة جهاز كمبيوترٍ بعبوة زيت، أو غرفة ضيوفٍ بعلبة مرتديلا كبيرة. يروي مناف، وهو معلم مدرسةٍ وصل إلى تركيا بعد أن تمكّن من الخروج من الحصار ثم اجتياز أرض داعش، حكاياتٍ لا يمكن تصديقها بسهولة؛ فجاره قد بادل سيارته بكيسين من السكر، وتوفيت طفلتان لجارٍ ثانٍ بسبب جملة أمراضٍ مختلطةٍ بفقر الدم نتيجة سوء التغذية.

تقول ريم، وهي ربة منزل، إنها أنفقت كلّ مدّخراتها وباعت مصاغها الذهبيّ لشراء ما يتوافر من سلعٍ غذائية. "ما ظل عندنا شي، صرفنا كلّ شي وبعنا كلّ شي يمكن ينباع تا نشتري شوية برغل ورز".

عبر طائرة الشحن شبه اليومية تنقل منظمة الهلال الأحمر شحناتٍ من المواد الغذائية، تنتقل، فور وصولها إلى أرض مطار دير الزور، إلى ملكية شبكةٍ يترأسها ضباطٌ من جيش الأسد، يختصّ كلٌّ منهم بنوعٍ محدّدٍ من المواد. فعلى سبيل المثال يطلق السكان، الذين لم يفقدوا حسّ الدعابة حتى في هذه الظروف، على أحد الضباط لقب أمير المعلبات. ويطلقون لقب أمير المازوت على العقيد ياسين الذي ما ينفك يهدد السكان بقوله: "ما راح خلّي عندكن مصاري يا ديرية.. بدي خليكن تبيعوا حتى أواعيكن".

المساحات المتاحة للزراعة في قرية البغيلية التي تعدّ حياً تابعاً لدير الزور، والواقعة على أطراف الأراضي الخاضعة لسيطرة النظام، لا تكفي أبداً لتأمين الحدّ الأدنى من الخضار، فيما تبدو محاولات البعض لزراعة أجزاء من حدائقهم المنزلية دون جدوى.

لا تقتصر القلة والعوز على الطعام، فانقطاع المياه لساعاتٍ طويلةٍ كلّ يومٍ نوعٌ آخر من أنواع المعاناة. ويشكو فنيو محطّة التصفية من قلة الوقود وانقطاع الكهرباء وشحّ مادة الكلور اللازمة لتعقيم المياه. والكهرباء مقطوعةٌ بشكلٍ كاملٍ منذ نيسان الماضي.

يمتنع النظام عن السماح للمدنيين بالخروج إلا بموافقةٍ أمنيةٍ تُدفع للحصول عليها مبالغ باهظة. ولا يسمح للذكور دون سنّ الخمسين بالمغادرة إلا في بعض الحالات التي يتم فيها تقديم الرشوة لعناصر الأمن، حسب ما تروي أم جمال، وهي عجوزٌ خرجت مؤخراً إلى مدينة الميادين في ريف دير الزور الشرقي: "كلها بالمصاري. قام يهرّبونهم تهريب. يلبّسونهم هدوم الجيش ويطلّعونهم بالمطورات لبعد الحواجز بخمسين ألف".

الخروج من الحصار بالسفر جوّاً مكلفٌ جداً ولا يتاح إلا لميسوري الحال، فقد تصل تكاليف الرحلة من دير الزور إلى دمشق إلى أكثر من 300 ألف ليرة. فيما يضطرّ متوسّطو الحال إلى الدخول في مساوماتٍ مع شبكةٍ من السماسرة لتأمين موافقة اجتياز الحاجز الأخير للنظام، ثم المشي لأكثر من ثلاثة كيلومتراتٍ قبل الوصول إلى حاجز داعش، ليتعرّض الجميع لتفتيشٍ دقيقٍ قبل نقلهم إلى مدينة معدان حيث يُحتجزون في مدرسةٍ حتى الانتهاء من التحقيق.

يقول مدرّسٌ سابقٌ خرج من الحصار ونقل، كما بقية النازحين، إلى معدان: "بهدلونا عالحاجز، وشالونا بسيارات الغنم، وسجنونا بمدرسة. ضلينا ننام بباحتها يومين، وما هدّت فوقنا طيارات التحالف، لحتى خلصوا تحقيق. وتركونا مع منع مغادرة لأراضي داعش إلا بموافقة". لكن المدرّس يبدو سعيداً رغم ذلك لأنه استطاع النجاة بأطفاله من الموت جوعاً، ولا يخفي رغبته في رحلة فرارٍ ثانيةٍ من أرض "داعش" إلى تركيا، بعد أن يأخذ قسطاً من الراحة في مكان نزوحه المؤقت في ريف دير الزور الغربيّ.