إعلان تشكيل مجلس الإفتاء

لعبت الفتاوى دوراً مؤثراً (سلباً وإيجاباً) في مسار الأحداث السورية، سواءً على الصعيد السياسي أو العسكري وحتى الثوري، وذلك لأن الشرائح المحافظة تشكّل السواد الأعظم للثائرين على نظام الأسد، وبسبب طبيعة الشعب السوري المتديّن عموماً. في هذه المادة نرجع إلى الوراء قليلاً لنستذكر بعض الفتاوى المتقدّمة في الثّورة السورية، ثم نستعرض أبرز الجهات التي عنيت بها.

المرحلة الأولى

أخذت طابع المواقف المبدئية من النظام وانتهاكاته، وهي تدور في فلك ما يعرف بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. إذ نظر العلماء فيها للأحداث في سورية ومتغيّراتها من جهة موافقتها أو مخالفتها للشرع، آخذين في الاعتبار قيم الحرية والعدالة والكرامة التي جاء بها الإسلام.

من حمص كانت البداية، فبعد أيام قليلة من بدء الانتفاضة السورية وقّع قرابة 25 عالماً من أبنائها (مطلع نيسان 2011) على بيان حمل اسم (جمعية علماء حمص) طالبوا فيه رأس النظام بجملة مطالب واضحة وصريحة، من أبرزها: السماح بالتظاهر السلمي، وتعديل المادة الثامنة من الدستور، ورفع حالة الطوارئ، وكفّ يد الأجهزة الأمنية، والسماح بعودة السوريين في المنفى، إضافة إلى إطلاق المعتقلين ومحاسبة القتلة، ومطالب أخرى سقفها مرتفع!

في دمشق أيضاً كان للعلماء في الأشهر الأولى للثورة عددٌ من المواقف التي أخذت طابعاً فرديّاً إلى حدّ ما. فعلى سبيل المثال في أيار 2011، ومن منبر جامع الحسن في الميدان، أعلن شيخ قراء بلاد الشام محمد كريّم راجح استقالته احتجاجاً على التعامل الأمني واعتداء الشبيحة على روّاد الجوامع. وكذلك عبّر الشيخ أسامة الرفاعي عن مواقفه الرافضة للظلم وللاعتداء على المتظاهرين من منبره في جامع الرفاعي بمنطقة كفر سوسة، حتى أنه أصيب على خلفية اقتحام الجامع من قبل الأمن والشبّيحة في ليلة القدر في آب 2011.

أما الموقف الجماعي الأصرح لعلماء دمشق فقد جاء في شباط 2012، حين صدر بيان حمل اسم (رسالة مفتوحة من علماء الشام/ معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)، وذيل بتوقيع كبارهم (الأخوين أسامة وسارية الرفاعي وكريّم راجح وراتب النابلسي وهشام البرهاني). افتُتح البيان بالترحم على شهداء سورية والتبرؤ إلى الله من الدماء المراقة، ثم أعلن بوضوح موقف العلماء من انتهاكات الجيش الذي دعوا عناصره (ضباطاً ومجندين) إلى عدم المشاركة في القتل وقصف المدن تحت أي ذريعة، وعدم الاستجابة لأي أوامر يتلقونها بهذا الشأن.

أما في حلب فقد حاول بعض «المشايخ» المحسوبين على النظام تعطيل عدة بيانات تداعى لتوقيعها عدد من العلماء وطلاب العلم أكثر من مرة. وكان محمود عكّام من أبرز هؤلاء المعطّلين، ولكنه وجد نفسه مضطراً للتوقيع على بيان صدر بتاريخ 7 آب 2011 حمل اسم (بيان علماء حلب) بعد أن حصد تواقيع قرابة 20 عالماً على رأسهم مفتي حلب د. إبراهيم سلقيني ومحدّثها د. نور الدين عتر، استنكروا فيه إراقة الدماء واعتداءات الشبيحة على المتظاهرين السلميين وانتهاكهم للمساجد، محمّلين «القيادة» المسؤولية الأكبر، كما طالبوا بحماية المظاهرات وإفساح المجال لحرية التعبير والإسراع في تعديل الدستور.

 

المرحلة الثانية

تميزت هذه المرحلة بأنها اتخذت طابع الفتاوى الرسمية الواضحة والتفصيليّة، التي أصبحت حاجة ملحّة بعد دخول السلاح على خط المواجهة، وبالتالي كان لا بد من التصدي لعشرات النوازل الجديدة التي ألمت بالثوار والمقاتلين، كأحكام حمل السلاح وكل ما يتعلق بالمجاهد، وأحكام التصرّف بأموال ومؤسسات الدولة التي سيطر عليها الجيش الحرّ، وأحكام صرف الزكاة، وأحكام التعامل مع الدول، وأحكام الأسرى والمعتقلين والمفقودين، وأيضاً أحكام الغلو والتكفير وغيرها من المسائل المستجدة.

في هذه المرحلة بدأ معظم العلماء وطلاب العلم، ممن شاركوا في المرحلة الأولى، بتشكيل تجمّعات عُلمائيّة ومكاتب علميّة ومراكز للفتوى في معظم أنحاء سورية، كلّ من موقعه. وبعيداً عن ملفّ القضاء والمحاكم الشرعية، الذي لن نتطرق إليه في هذه المادة، واصل معظم العلماء والباحثين دورهم في دراسة 

وإصدار الفتاوى. ففي حلب مثلاً تم الإعلان رسمياً عن تشكيل جبهة علماء حلب بعضويّة 70 عالماً وداعية، تم التحفّظ على أسماء الموجودين منهم داخل سورية (مناطق سيطرة النظام)، فيما تم إشهارُ أسماء الموجودين منهم خارج سورية. أصدرت الجبهة عدداً من البيانات ولعبت دوراً مهماً في توجيه دفة الحراك الثوري وضبط عمل الفصائل في محافظة حلب إلى حدّ ما، عبر بعض المطويّات ووسائل الإعلام التي تناقلت فتاوى الجبهة، ومن أشهر بياناتها الدعوة إلى ردّ عدوان الشبيحة وأحكام التعامل مع عناصر الأمن والجيش، كذلك بيانها برد عدوان داعش بعد توجيه عدة بيانات تحذيرية لعناصر التنظيم. في نيسان 2014 أعلنت الجبهة توقفها عن إصدار البيانات بهدف تحقيق الاندماج مع المجلس الإسلامي السوري.

 

 

رابطة العلماء السوريين: إحدى منظمات المجتمع المدني المسجلة رسمياً في تركيا، وهي 

من أبرز الجهات التي اعتنت بموضوع الفتاوى والتعليم، فقد صَدَرَ عنها بدايات الثورة، وعن رئيسها في تلك الفترة 

الشيخ محمد علي الصابوني، عدد من الفتاوى والبيانات المصوّرة. وتصدّى مكتب الفتاوى في الرابطة لمئات المسائل والأحكام الفقهية، وهو يضم عدداً من العلماء والباحثين المختصّين داخل سورية وخارجها، برئاسة د. مروان القادريّ. وقد طبعت الرابطة عشرات الكتب والمطويّات، من أبرزها كتاب فتاوى الثورة السورية، وكتيّب فقه الأولويّات. كما أقامت العديد من الدّورات التدريبية للدعاة داخل سورية وخارجها. وأيضاً بعد تشكيل المجلس الإسلامي السوري توقفت الرابطة عن إصدار الفتاوى المتعلقة بالشأن العام واكتفت بإصدار الفتاوى الخاصة أو العامة التي لا تتعلّق بقضايا سورية الكبرى.

هيئة الشام الإسلامية: إحدى الهيئات الإسلاميّة السورية البارزة، المحسوبة على تيّار السلفيّة العلمية. يجيب مكتبها العلميّ عن الاستفتاءات الخاصّة والعامّة، المبوبة والمرقّمة في موقعها الالكتروني. ويضمّ هذا المكتب مجموعةً من طلبة العلم والباحثين الشرعيين السوريين، بعضهم من حملة الشهادات وآخرون ممن لازموا كبار العلماء المعاصرين. اهتمّت الهيئة بطباعة وتوزيع المطويّات من الفتاوى وغيرها، ولها كتاب مطبوع بعنوان: الإصدار الأول من «فتاوى الثورة السورية».

المجلس الشرعي في محافظة حلب: وهو تجمع لذوي الاختصاص الشرعي في المحافظة (انظر العدد 93). أصدر مكتب البحوث والدراسات في المجلس عدداً من الفتاوى المتعلّقة بقضايا الشأن العام، إلا أنه توقّف عقب تأسيس المجلس الإسلامي السوري أيضاً.

مركز شامنا للدراسات والأبحاث: وهو مركز علمي بحثي يُعنى بقضايا المجتمع والثورة في سوريا من الناحية الشرعية التأصيلية. تخصص في إعداد الدراسات حول القضايا المستجدة، وعمل على تزويد المجالس والهيئات والتجمعات الثورية والشرعية بالنتائج التي خلُص إليها. وقد أنجز عدّة أبحاث مهمة من أبرزها: الشورى وتطبيقاتها المعاصرة؛ الهدنة وتطبيقاتها في الثورة السورية؛ القانون العربي الموحد: دراسة نقدية؛ ودراسات أخرى. إلا أنه توقف عن العمل مؤخراً بسبب توقف تمويل أبحاثه.

المجلس الإسلامي السوري: وهو هيئة مرجعية شرعية وسطية. أعلن عن تأسيسه منتصف نيسان 2014. وقد ضمّ قرابة 40 رابطة علمية وشرعية من أنحاء سورية، بهدف «تكوين مرجعية شرعية وسطية موحِّدة للشعب السوري تحافظ على هويته ومسار ثورته» كما جاء في بيانه التأسيسي. تصدّى المجلس للعديد من قضايا الشأن العام في سورية، ومن أبرزها فتوى: حكم التدخل الأميركي البري شمال سورية (انظر العدد 79)، وفتوى التغلب بين الفصائل، وحكم التنسيق مع الأتراك في قتال تنظيم داعش، وغيرها من الفتاوى. ومن أبرز إيجابيات المجلس أنه شكّل إطاراً جامعاً لمعظم الهيئات العلمية السورية على اختلاف مشاربها الفكرية، والتي توقفت عن إصدار الفتاوى والبيانات، باستثناء فصائل السلفية الجهادية التي انسحبت إبان تأسيس المجلس على خلفية نسبة تمثيلها داخله، ولا يزال كلّ فصيل منها يحوي مكتباً شرعياً خاصاً به يصدر الفتاوى والبيانات، مما أدّى إلى إضعاف ثقل المجلس على الأرض إلى حد ما، إذ من الصعوبة بمكان إرضاء فصائل السلفية الجهادية التي لا تزال منتشية بالسلاح الذي بين أيديها، والتي لطالما سعت إلى التمايز عن الثورة وتقديم مشروعها على مشروع الثورة وأهدافها.

في 14 أيار الماضي أعلن المجلس الإسلامي السوري عن تشكيل مجلس الإفتاء الذي يضم بعض علماء المجلس وعلماء آخرين من خارجه، وتأتي هذه الخطوة –وفق بيان المجلس-  بهدف تعزيز الفتاوى المتعلقة بأمور الشأن العام والنوازل التي تحتاج إلى اجتهادات فقهية تفي بضرورات العصر وحاجته وعدم تفرّد المجلس بها. وفي لقاء أجرته «عين المدينة» مع د. عماد الدين خيتي، عضو المجلس الإسلامي السوري، قال: إن إحداث مجلس الإفتاء هو أمر في غاية الأهمية، لأنه يستوعب عدداً أكبر من أهل العلم ممن هم خارج المجلس، ما يعني زيادة المشورة والتباحث في النوازل بينهم، كما أنه يخصص الفتوى بمؤسسة بدلاً من لجنة للفتوى فحسب، الأمر الذي يسهم في تطوير الفتاوى ويزيدها حجّة وبياناً. وحول إمكانية الوصول إلى مرجعيّة موحّدة للثوار السوريين من خلال مجلس الإفتاء الجديد قال د. خيتي: إن بناء مرجعية موحدة يجتمع عليها السوريون يحتاج وقتاً طويلاً، خصوصاً مع حالة الرفض التي تنتهجها بعض الفصائل. ويضيف: التحدّيات التي نواجهها كبيرة جداً، في ظل انحسار الثورة وكراهية الناس للحديث بالدين ورفضهم المتديّنين!