سوق برهان بمدينة حماة.. صلة الوصل بين المدينة والبادية يحتضر

سوق برهان الأثري في حماة - سانا

حافظت العديد من الأسواق العثمانية في سوريا على قيمتها كمؤسسات اجتماعية اقتصادية، بالإضافة إلى قيمتها التراثية المعمارية، ولم تدخل في خانة المواقع الأثرية التي يقتصر دورها على العمل المتحفي. ويعتبر سوق برهان في حماة مثالاً حياً على تلك الأسواق، حيث تختلط عراقة المهن الموروثة ببنية السوق وعمرانه وأثره الاجتماعي، بينما تهدد الظروف الأمنية والاقتصادية السيئة بقاءه.

تتكون بنية الأسواق العثمانية من المحال على جانبي شارع السوق وأطراف فسحه وساحاته، وحمامات وجوامع وخانات على الهامش بدأت تظهر في المدن في القرن التاسع عشر، القرن الذي شهد بناء سوق برهان. فوفق المتاح من المعلومات يعود تاريخ بناء سوق برهان إلى عام 1876 على يد علي الكيلاني أحد كبار المتنفذين في مدينة حماة، الذي أطلق على السوق اسم ابنه برهان، واستخدم فيه الطراز العثماني بالبناء بمستوى طابق واحد على شكل طولي ومحلات متقابلة وأسقف قوسية للمحال، ومداخل على شكل قناطر وممر مسقوف، بالإضافة إلى مسجد وخان للمبيت مزود بساحة ذات فسحة سماوية تحوي في وسطها بحرة مزودة بنافورة، ويمكن الدخول إليه عبر بوابة سماوية للخان الملاصق للسوق متصلة بسوق مسقوف "عبَّارة"، تحوي محال أفقية متناظرة يصل عددها إلى ما يقارب مئة محل.

يقع السوق في حي الحاضر شمال شرق مدينة حماة، الحي الذي بدأ يتشكل قبل أكثر من مئتي سنة وفق وظيفته التجارية، وسمي من خلالها "الحاضر" أي المكان الذي يتحضر ويتزود منه البدو بالبضائع. في ذلك الوقت الذي كان الحاضر يغص بالحركة والتجارة، لم يكن سوق برهان ذا أهمية مميزة. في حين شهدت أواسط القرن الماضي صعوداً للسوق، بعد أن اتفق عدد من أصحاب الحرف اليدوية المتخصصين بإنتاج حاجيات البدو -بالتعاون مع المسؤولين عن الشؤون المدنية في حماة- على نقل مشاغلهم وورشهم إلى سوق برهان، ووقع الاختيار على الموقع نتيجةً لتوفر عدد كبير وكافٍ من المحال التجارية المتقاربة في موقع واحد، فضلاً عن الوصول السهل إلى السوق من خارج المدينة دون الدخول إلى عمقها. في هذا السياق يمكن اعتبار السوق تكثيفاً لمنطقة الحاضر العثمانية.

وبالرغم من أن سوق برهان والخان الملاصق له يعتبران من المعالم التراثية المتميزة في حماة وحافظت على رونقها لتمسكها بالتقاليد التراثية، إلا أنها لم تكن قبلة أولية أو ثانوية للوفود السياحية من خارج المدينة لتفرد مدينة حماة بوجود النواعير والمدينة القديمة المحيطة بها التي كانت محطاً للوفود السياحية لافتةً أنظارهم عن زيارة أي معلم آخر، وبالتالي يمكن القول أن العلاقة الحميمة بين البدو وسوق برهان كانت النقطة الحاسمة في عراقة السوق وجعله مكاناً مهماً للتجارة والتبادل التجاري والثقافة التقليدية بين البيئتين الحضرية والبدوية، ولكن في ضوء الظروف الأخيرة واستمرارها على ذات الوتيرة قد يُهدّد استمرار حياة هذه العلاقة في الأيام القادمة.

أياما خلت يستذكرها أبو ياسين وهو خياط متخصص بتفصيل العباءات والفِريّ والسراويل في سوق برهان، حيث أقام وتجار السوق علاقات متطورة مع أهالي تجمعات البادية، وأصبحوا يعرفون ذوق كل قرية من قرى البادية في الزي، ومطلب كل شخص قادم من البادية "دون إسهاب في الشرح. بمجرد ذكر اسم قريته أو عشيرته (نعرف طلبه) لأننا على معرفة متراكمة من سنين أمضيناها بالتعامل معهم". بحسب حديث أبو ياسين لعين المدينة.

أسهم الموقع الجغرافي لمدينة حماة الملاصق للبادية السورية في جعلها مركزاً تجارياً هاماً لتبادل السلع والمنتجات بين أبناء البادية والمدينة، فقرى بادية حماة الشرقية تبدأ من مسافة لا تزيد عن 20 كم عن مركز المحافظة، الأمر الذي جعل التنقل بين المدينة والبادية سهلاً، وشراء حاجيات البدو منها يسيراً دون تكبد العناء والبحث عنها في زحام المدينة وكثرة أسواقها، أو دخول قوافل البدو وعرباتهم بين الأحياء السكنية والأسواق الأخرى.

يذكر ريان الأحمد من قرية عرفة ببادية حماة، أن سوق برهان كان المحطة الأولى التي ترتسم في أذهان جميع الذاهبين من البادية إلى محافظة حماة، ويضيف لعين المدينة "ابن عمة أبي كان يذهب أسبوعياً إلى السوق لشراء طلبات أهالي القرية من معدات لبيوت الشعر وعباءات وفري وعقالات وبرمان وحبال ولجامات للدواب ودخان عربي وتمور ودبس، وفي ذات التوقيت يأخذ اللبن والسمن والجبن والجلود المنتجة في القرية لبيعه في السوق".

وفي المقابل يعد الذهاب لسوق برهان بالنسبة إلى أبناء حماة فرصة لا تعوض لشراء منتجات البادية وبجودة أفضل من جودة المعامل والمشاغل المحلية ومحلات المدينة وبأسعار منافسة وتنوع كبير، كما يقول الشاب عبد المجيد عنجاري الذي كان يذهب رفقة والده بشكل موسمي لشراء مؤونة الشتاء ورمضان من الجبن والسمن العربي واللبن والصوف وبعض الأعشاب الطبيعية.

وعن الوضع الحالي للسوق يشير أبو ياسين إلى عوامل عدة أدت إلى ركود حركة التبادل التجاري بين البادية والمدينة وتوقف شبه تام لأغلب ورش ومحال السوق، أهمها نزوح الغالبية العظمى لأبناء البادية من قراهم إلى مناطق متفرقة خارج محافظة حماة نتيجة عمليات النظام العسكرية في البادية وتهجير معظم ساكنيها، بالإضافة إلى إسباب تتعلق بغلاء المواد الأولية التي تسببت بارتفاع تكلفة المنتجات وتدني القدرة الشرائية لأبناء الريف والبادية معاً، وانقطاع دائم للتيار الكهربائي وإهمال بلدية حماة لعمليات الترميم والنظافة، وختم بالقول "إن استمر الوضع على ما هو عليه ستغلق عشرات المحال والورش اليدوية التي لم تتوقف عن العمل منذ أكثر من ستين عاماً أو يزيد، وستندثر وتنسى هذه الحرف في حال أصبحت عبئاً على متقنيها".