داعش... قصة ثأر الضباط العراقيين

  من غير المتوقّع أن يخلو كتابٌ لهيثم منّاع من ظهور عداوة المؤلف الشخصية للمعارضة الائتلافية وسواها، واتهامها بشتى أنواع التهم. ولكن، تبقى لكتابه الجديد «خلافة داعش»، الذي صدر مؤخراً بالعربية والفرنسية، فضائل البحث الموسّع المعتمد على عددٍ كبيرٍ من الوثائق، وعلى تتبّعٍ تاريخيٍّ لظهور هذا التنظيم وتطوّره.

ورغم أن الكتاب يتناول داعش من جوانب شتى، منها –بالطبع- المدخل السلفيّ الجهاديّ (القاعدة) المعروف، إلا أن أهمّ ما يقدّمه هو المدخل العراقيّ الخاصّ لولادة التنظيم، بعد أن كان العراقيون بعيدين عموماً عن التجربة الأفغانية التي ولّدت التجارب القاعدية المحلية أو غذّتها. فكان أن نشأ الفرع العراقيّ للقاعدة على أيدٍ غير عراقية (أبو مصعب الزرقاويّ وسواه من الأردنيين والسوريين وغيرهم) حتى التقى هذا المشروع بالمكوّن المحليّ المكوّن من الضباط العراقيين المسرّحين بموجب القرار الأمريكيّ بحلّ جيش صدّام حسين، فكان أن ولد فرانكشتاين، بسماته المتوحّشة المعروفة التي طالت كلّ أحد، بمن فيهم أمه القاعدة.
فقد دفع اجتثاث المؤسسة العسكرية والأمنية العراقية أيام صدّام، واستبعاد كوادرها من عملية إعادة بناء البلد، بعددٍ غير قليلٍ من الضباط السابقين إلى التوجه نحو التعبير الأكثر تعصباً وشراسةً في الموقف من العملية السياسية وإعادة بناء أجهزة الأمن والجيش، والتي اعتمدت أساساً على المجموعات الشيعية المسلحة التي تشكلت في إيران سابقاً. وقد بدأ التنسيق بين أوائل المنتسبين إلى القاعدة في العراق وبين هؤلاء الضباط الناقمين مبكراً، للاستفادة من خبراتهم العسكرية. ثم بدأت عمليات التقارب الأيديولوجي تتسارع في معتقلات الجيش الأمريكيّ، حيث قضى أفرادٌ من الطرفين سنواتٍ عديدة.
بعد أبي مصعب الزرقاويّ، ومع أبي عمر البغداديّ وجيلٍ من الضباط السابقين، برزت معالم «عراقية القيادة»، وتنويع مصادر التمويل، بالعمليات العسكرية ذات المردود الاقتصاديّ، وفرض الأتاوات، والاستيلاء على موارد الدولة، وخطف الرهائن بقصد الفدية، قبل أن تضاف إليها تجارة الطاقة (النفط والغاز والكهرباء)، مع أبي بكر البغدادي والنواة العسكرية الصلبة التي استقرّت في رأس هرم التنظيم، حين صار الضباط السابقون في موقع تحديد السياسات. واعتُمد مؤخراً على الإعلام كوسيلةٍ مركزيةٍ من وسائل المعركة، بتأكيده على صور الجبروت والقسوة والرهبة، بهدف إخضاع المخالفين أو تحييدهم. كما اتبع التنظيم سياسة المفاوضات مع العشائر، مستفيداً من درس «الصحوات»، في الوقت الذي تعامل مع أيّة تجمعاتٍ سكانيةٍ محليةٍ غير سنّيةٍ بما يشبه التطهير، منعاً لوجود أيّة أرضية احتجاج.
والآن، يشكّل الضباط العراقيون السابقون مركّب القوّة العسكرية والأمنية الأساسيّ في التنظيم. وعبر تقاطع المعلومات أمكن جمع أسماء مائتين من الضباط وصفّ الضباط الذين تولوا مسؤولياتٍ مختلفةٍ وولاياتٍ منذ الإعلان عن قيام «دولة العراق الإسلامية» في 2006 وحتى الآن، قتل منهم قرابة النصف في العراق وسورية. ويستعرض الكاتب سير أبرز هؤلاء، كأبي عبد الرحمن البيلاوي وحجي بكر وأبي أيمن العراقي. لافتاً إلى أن العناية بدراسة هذه الكتلة الأساسية لا تعود فقط إلى دورها العسكريّ، بل لأنها وضعت بصماتها على الأيديولوجية والموقفين السياسيّ والشرعيّ. إذ يجمع بين أفراد هذه النواة الصلبة، والكبيرة في الوقت نفسه، ما يسمّيه المؤلف بـ«عصاب الدولة»، في ردّ فعلٍ عميقٍ وشخصيٍّ على قرار السلطات الأمريكية بحلّ الجيش العراقيّ والأجهزة الأمنية والحزبية (حزب البعث)، والتي كان ينتمي إليها هؤلاء، ويرون أنها الدولة بالفعل. كما يجمع بينهم العداء لإيران، فهم من الجيل الذي قاتلها خلال حربٍ طويلة، ثم وقعوا ضحيّة مشروعها السياسيّ الطائفيّ في العراق. وثالثاً، يهيمن عليهم دافعٌ طاغٍ للانتقام من المكوّنات العراقية غير السنية، التي قبلت وساندت حكماً يهيمن عليه الشيعة والأكراد.
أخيراً، يلحظ المؤلف أن الانتصارات السريعة الأخيرة لداعش، ولا سيما استيلاؤها على الموصل، أحدثت أثر الصدمة الكهربائية لدى الجميع، مما أدّى إلى صحوة إقليمية ودولية متعددة الأطراف ضدّ التنظيم. وفي الوقت نفسه، هزّت هذه الانتصارات داعش نفسها، وملأتها بالعنجهية وبالشعور بالقدرة على خوض المعارك على عدّة جبهات. والتقى هذان الأثران بسرعةٍ، مما يومئ إلى بداية نهاية التنظيم.