حلب:
بين الهزيمة العسكرية والسقوط الأخلاقيّ

الدمار الذي خلفته قوّات الأسد وحلفاؤها هائلٌ إلى الدرجة التي استطاع فيها أن يتغلغل في عقول وقلوب مواليه ليتحولوا تدريجياً إلى أشبه بالوحوش، وفي أفضل الأحوال إلى حمقى متعالين، محمّلين الثورة مسؤولية كل المآسي التي شهدتها البلاد، ساعين إلى شيطنة أبنائها ومن يقف إلى جانبهم.

قبيل معركة حلب الأخيرة طالبت الكثير من الصفحات الموالية على فيسبوك بإبادة سكان الأحياء الشرقية من المدينة، كـ«شبكة حلب عاجل» التي دعت قيادتها إلى «الدعس بالبوط العسكري لأن الحمار بعمرو ما بصير بني آدم ويفهم حكي»، ليحظى هذا المنشور بأكثر من 2300 إعجاب. في وقتٍ نال فيه منشور الإعلاميّ الحلبيّ الموالي للنظام، شادي حلوة، 15000 إعجاباً عندما كتب: «اتخذ القرار... السحق... رفعت الأقلام وجفت الصحف..»، لتأتي التعليقات على المنشور مشيدةً بهذا «الحل الأنجع»، واصفةً سكان حلب الأخرى بالصراصير والفئران الذين لا يستحقون الحياة، مطالبةً قوات الأسد والنمر بإبادتهم.

أما مدير غرفة صناعة حلب، سليل المحسوبيات والفساد، فارس الشهابي، فكتب على صفحته في فيسبوك: «تجمع طوبز كما أمرت ودفع لك» الفورجي قرر مغادرة أحياء حلب الشرقية غداً الى قندهار الإدلبية.. نأمل ذلك!». ويصف، في منشورٍ آخر، سكان حلب الشرقية بالقول: «هل ستستجيب البهائم لنداء العقل..؟!».

هذا التعايش مع واقع العبودية القائم يقابله الشعور بالكرامة والإحساس بالحرية والسعي إلى بناءٍ جديد، ما شكل اختلافاً بين سكان مدينة حلب التي انقسمت بفعل ذلك إلى شرقيةٍ وغربية، وسرعان ما غيّر هذا التقسيم طريقة التفكير واللغة والقيم بين أكثر السكان في ضفتي المدينة، إذ يتدنى الخطاب إلى الإسفاف المريع لدى معظم الأصوات المنبعثة من الضفة الغربية التي تبعد مئات الأمتار فقط عن الذين تنفسوا الحرية وحملوها.

يكتب الثائر Haleem Kawa على صفحته على فيسبوك قبيل المغادرة:

«سأُهجّر قسراً من مدينتي التي ولدت وعشت فيها، وبلا أمل بالعودة.

الساعات الأخيرة لنا الآن في حلب.

خليط من المشاعر بين الفرح والحزن والخيبة والألم.

فرح النجاة من هذه المحرقة لمن بقي حياً، وحزن على المغادرة الأبدية! لنا نحن أبناء هذه المدينة».

ويكمل:

«سامحوني يا أهل حلب

سامحونا على كل أخطائنا

بتمنى من كل قلبي السلامة والراحة لكل أهالي المدينة اللي رح يبقوا فيها

أعانكم الله على الاحتلال الأسدي والروسي والإيراني..

خاطرك يا حلب، خاطرك يا يوم..».

وفي وقتٍ تجد فيه الناشطين، وحتى البسطاء، في الأحياء الثائرة ينتمون إلى هذا الخطاب الإنسانيّ مترفعين عن النفس الدمويّ، تجد من أبناء الضفة المقابلة من يرقصون للأسد ويتبادلون صور السيلفي على جثث أبناء مدينتهم وأمام البيوت المهدمة. فهم يرفضون أيّ تغييرٍ في الطريقة التي يعيشونها، والتي تمثل من وجهة نظرهم الحياة الآمنة والهادئة، حتى لو كانت تحت نظامٍ دكتاتوريٍّ قاتلٍ وقبضةٍ أمنيةٍ حديدية، طالما أن كل شيءٍ يُحلّ بالمال والرشوة والفساد، باعتبارهم «مواطناً مثالياً» بلا أحلامٍ تناقض ما يأمر به القائد وشبّيحته.

فتكتفي نوار رحموني، من الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ، بالتحسر على شجرة الميلاد في الوقت الذي يُهجّر ويموت فيه آلاف الأبرياء في الطرف المقابل: «متل هالأيام كانوا الحلبية ينزلوا عالسليمانية والعزيزية ليتفرجوا ع زينة العيد. متل هالأيام... بس من 6 سنين».

بينما يكتب الدكتور الإنسان سالم أبو النصر، قبل الخروج من حلب الشرقية، على باب مركز «دارنا» الاجتماعيّ، رسالته للغزاة القادمين فيقول:

«انتبه!!

لا تخرب!!

هنا يوجد أشياء يستفيد منها أطفالك

15/12/2016

حلب/ سوريا

حرية».

ويكتب عقب الخروج:

«لكل الأصدقاء في الواقع وفي العالم الافتراضي، في سوريا ومن كل شعوب الأرض، جزيل الشكر والعرفان والتقدير على كل حملات التضامن مع كل الناس الذين كانوا يعانون ويلات القصف والحصار والتشرد في الأحياء الشرقية من حلب.

لكل القلوب البيضاء وافر الامتنان لما بذلوه من جهد لتخفيف معاناة الناس.

لكل القلوب المفعمة بحب الخير للناس في كافة بقاع الأرض، السلام والعدالة.

طبعاً كل المحبة لمن لا يزال على إنسانيته رغم توحش الآخرين.

مني شخصياً كل الاحترام لكل الذين ما زالوا مؤمنين بكرامة وحقوق الإنسان. وأولها حقه أن يعيش الحرية..».

وهنا علينا أن نقف لنتساءل عن سبب هذه الهوّة الكبيرة التي نشأت بين جانبي المدينة والبلاد في الخطاب الإنسانيّ والتفاوت في الرؤى وشكل الحل؟