بطلة تحوّلت إلى سافلة: أونغ سان سو ومسحُ روهِنغيا ميانمار من الوجود (1 من 2)

بيني غرين 
13 تشرين الأول مجلة The Nation  
ترجمة مأمون حلبي

قبل أمد قصير التقيتُ بيني غرين لمناقشة الوضع في ميانمار، ودور أونغ سان سو في ارتكاب الجرائم الفظيعة بحق الروهِنغيا. طيلة السنوات الخمسة الماضية كان غرين أستاذ في القانون وقضايا العولمة، والمدير المؤسس للمبادرة القانونية الدولية لجرائم الدول بجامعة الملكة ماري في لندن. يرصد عن كثب معاملة الروهِنغيا في ميانمار في تقرير صادر عام 2015، ويرتكز على 12 شهراً من العمل الميداني، وأكثر من 200 مقابلة. وجدت المبادرة الدولية لجرائم الدول أدلة وافية على تعرّض الروهِنغيا لانتهاكات ممنهجة واسعة النطاق بخصوص حقوق الإنسان، بما فيها عمليات قتل وتعذيب واغتصاب، بالإضافة إلى رفض حقهم بالجنسية، وتدمير القرى ومصادرة الأراضي والعمل القسري. لنترك الكلام لـ بيني غرين

- نيف غوردون


نالت بورما، التي تُعرف حاليا باسم ميانمار، استقلالها سنة 1948. كانت البلاد جزءاََ من مستعمرة بريطانية شاسعة. وعلى غرار الهند وباكستان وبنغلادش قُرِّرت حدود بورما، جزئياً، وفقاً لخطوط دينية، فكان معظم السكان فيها بوذيين. كان الروهِنغيا، الذين يعتنقون الإسلام، يعيشون لقرون بشكل رئيسي فيما أصبح يُسمّى ولاية راكين في بورما المؤسَّسة حديثاً. عام 1950 مُنِح الروهِنغيا بطاقات شخصية بصفتهم مواطنين يحملون الجنسية، ومُنِحوا الحق بالتصويت تحت حكم أول رئيس وزراء بعد الاستقلال، يو نو. حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي كان الروهِنغيا يشغلون مواقع حكومية هامة كموظفين مدنيين، وكان تعبير (الروهِنغيا) مستخدماً في الكتب المدرسية والوثائق الحكومية. في أوائل الثمانينيات بدأنا نشهد بداية عملية تهدف بالمحصلة إلى محو الروهِنغيا من تاريخ وجغرافية ميانمار. 

في عام 1982 تمّ إزالة الروهِنغيا من قائمة الـ 135 أقلية عرقية المُعترف بها رسمياً في ميانمار، وتمّ تجريدهم من الجنسية. بعد ذلك بعقد من الزمن رفضت الحكومة فجأة إصدار شهادات ميلاد للروهِنغيا الرُضّع، ثم بدأت بعد ذلك تستأصل بشكل كلي تعبير (الروهِنغيا) من النصوص الرسمية، وإدانة أي شخص يتلفّظ بهذه الكلمة. بعد أحداث العنف عام 2012 في ولاية راكين، التي أذنت بها الحكومة، تمّ حصر الروهِنغيا بمناطق أمنيّة، ومخيمات احتجاز، وأحياء خاصة بهم، وقرى تحاكي السجون؛ وتمّ إقصاؤهم عن التعليم الجامعي وكل المهن، وعن الجيش والوظائف الحكومية. وأخيراً، عام 2014، تمّ إقصاء الروهِنغيا من عمليات الإحصاء السكاني. برأيي هذا أمر حاسم، حتى أكثر من منعهم من المشاركة في انتخابات تشرين الثاني 2015، لأنّ التاريخ يُعلّمنا أنه عندما تكفُّ الدولة عن إحصاء الناس فهذا يعني أنّ الدولة لم تعد تعتبرهم موضوعات للإدارة والضبط، وعندما تتوقف مراقبة الناس وإدارتهم فهذا يعني أنهم يُعتبرون بلا لزوم. 

كان حشر الروهِنغيا في معسكرات اعتقال جزءاََ أساسياً من العنف المندلع عام 2012، وكان هذا العنف بدوره نتيجة لحملة كراهية ممنهجة، مدعومة من الحكومة، ومخططة بشكل منظّم من قِبل مجموعة متشددة ضمن الرهبانية البوذية التي يقودها آشين وراثو. يجب ألا ننسى أنه بالرغم من وجود فترات توتر قبل 2012، إلا أن الروهِنغيا كانوا يذهبون إلى المدارس مع كل المجموعات العرقية الأخرى التي تعيش في ولاية راكين، وخصوصاً سكان الأغلبية البوذية. كانوا يعيشون معاً، ويتبضعون من دكاكين بعضهم البعض، وكانوا يشاركون في احتفالات بعضهم البعض. لكن مع مرور الزمن، اجتاحت البلاد حمّى العداء للمسلمين. وفي حين أن درجة العصبية القومية المعادية للأجانب داخل ميانمار عالية بشكل مدهش، وتخترق كل مستويات المجتمع، مما يجعل الحياة بالغة الصعوبة بالنسبة إلى المسلمين المُقيمين في ماندالاي ويانغون وأجزاء أخرى من البلاد؛ إلا أن الروهِنغيا في ولاية راكين يعانون إحساساً مزدوجاً بالاضطهاد: الكراهية العامة للأجانب، وكراهية عرقيّة محددة موجّهة ضد مجموعتهم العرقية.

كان اغتصاب وقتل امرأة بوذية من قِبل ثلاثة رجال من الروهِنغيا، حسب المزاعم، هو الحدث الذي عجّل باندلاع العنف عام 2012، وكان هذا الحدث هو الذريعة في العنف المُندلع في مدينة ستوي، عاصمة ولاية راكين، وحولها. تمّ ارتكاب أعمال العنف هذه من قبل قوميي راكين، وحمَّاها رهبان بوذيون متشددون وسياسيون محليون. كان واضحاً، من الناس الذين قابلناهم، أنّ قوات الأمن لم تفعل أي شيء أثناء الأيام الثلاث الأولى، وأتاحت للعنف أن يأخذ مجراه قبل أن تتدخل، ولم يكن ثمة حالات ادعاء بعد هذا العنف، مع أن 200 شخص كانوا قد قُتِلوا.

عندما فرّ الروهِنغيا من بيوتهم المحترقة تمّ سوقهم إلى مجمّع مخيمات احتجاز. ذاك هو المكان الذي تمّ احتواؤهم فيه طيلة السنوات الخمس الماضية. بقي عدد قليل نسبياً من الروهِنغيا في مدينة ستوي، ويعيشون في غيتو أونغ مانغالار بحماية قائد بورمي، لم نستطع تحديد مكانه، لكن الشهادات توحي أنه وقف في وجه قوميي راكين وأفراد قوات الأمن، فحمى الروهِنغيا من جموع الغوغاء. 

أونغ مانغالار هو غيتو شديد الحرمان، فهو لا يتلقّى مساعدات من برنامج الغذاء العالمي، لأنه ليس مخيم داخل في السجلات، لذا يعتمد الروهِنغيا المقيمين هناك على مساعدات من جماعات إسلامية، وحصص محدودة من الدولة. عندما زرنا الغيتو ومخيمات الاحتجاز عام 2014 و 2015 كانت الظروف الحياتية هناك يُرثى لها. كان الوضع كما لو كنا نشهد عملية موت اجتماعي. كانت المخيمات مزرية، والفرصة الوحيدة لكسب العيش التي شاهدناها كانت تجميع روث البقر وتجفيفه من أجل بيعه كوقود. كان بالكاد يوجد أي سبيل للحصول على الرعاية الصحيّة. يُقال أن أطباء راكين يُقدّمون خدمات لساعتين كل أسبوع في مخيمات تأوي آلاف الناس. منظمة (أطباء بلا حدود) كانت تُقدّم رعاية صحيّة في الحالات الطارئة، لكنها طُرِدت من ولاية راكين (ولاحقاً من كل ميانمار) عام 2014، بعد إصدارها لتقرير يُفيد أنها عالجت 22 شخصاََ من قرية دار شي يار لتعرضهم لإطلاق نار، وعمليات ضرب، وجروح بالسكاكين.

دورات المياه في المخيمات جماعية، وتتوضع على أطراف المخيمات، وهذا الأمر قد يُشكّل خطراً على النساء. يخشى الناس مغادرة المخيمات خوفاً من أعمال العنف بحقهم، وخوفهم مبرر إن أخذنا بالاعتبار الهجمات الوحشيّة التي ارتُكبت بحق أولئك الذين كان لديهم الجرأة على الذهاب إلى ستوي. الناس الذين شاهدناهم كانوا مكتئبين للغاية. لقد زرنا الأكواخ المكتظّة إلى آخرها، وكان الناس مضطجعين على الأرض، لا أكثر، لأنه لا وجود لشيء يمكن فعله: لا عمل، ولا طعام يعدونه، ولا مكان يذهبون إليه.

التطهير العرقي والإبادة العرقية

(التطهير العرقي) تعبير إشكالي لعدد من الأسباب: أولاً، ليس لهذا التعبير مَسرَب قانوني، مما يجعل من السهل بالنسبة إلى الحكومات الأجنبية، وصف ما تشهده في ميانمار على أنه تطهير عرقي، لأنه لا يُلزمها بالتدخل، سواء لمنع العنف وحماية الروهِنغيا، أو لمعاقبة الجناة. وهناك مشكلة أخرى هي أنّ تعبير (التطهير العرقي) استُخدِم في البداية من قِبل سلوبودان ميلوسوفيتش ليُغطي على عناصر الإبادة العرقية للهجمات ضد المسلمين البوسنيين. إنه تعبير الجاني. تبدأ الإبادة العرقية بممارسات الوصم والتشنيع، وتجريد البشر من النزوع الإنساني، وهو ما قد شهدناه في ميانمار لوقت طويل. أثناء عملية جعل الروهِنغيا (آخرٌ) تستمر عملية الوصم والتشنيع، لكننا ننتقل إلى مرحلة المضايقة، وهنا تُنزع الحقوق المدنيّة تدريجياً، مثل الحق بالتصويت، أو ركوب أشكال نقل معيّنة، أو إنجاب أطفال بالعدد الذي يروق للمرء. لقد تمّ حرمان الروهِنغيا من هذه الحقوق وكثير غيرها. أثناء هذه الفترة من المضايقات غالباً ما نشهد حالات عنف عرضيّة، عنف كان يختبر قدرة السكان المحليين على الانخراط في العنف ضد الجماعة المُستهدَفة. نتيجة للعنف المندلع عام 2012، الذي قادته ولاية راكين، أرغم الروهِنغيا على البقاء في أماكن احتجاز، وأُبعِدوا عن نظر بقيّة جماعات راكين. كانوا في عزلة مُطبقة. كل هذه الممارسات ضرورية لتأمين انصياع السكان المحليين، وتورطهم النشِط في عملية الإبادة.

يعلّمنا تاريخ اليهود في ثلاثينيات القرن الماضي أنه عندما تُعزل جماعة ما، ويتم إضعافها بشكل ممنهج -عن طريق فقد الطعام، والوصول المحدود للرعاية الصحيّة والعمل وسُبل الحصول على المعيشة- وتفكيك وتذرير مجتمعها بشكل مدروس؛ حينها تصبح الجماعة مُستضعفَة للغاية. هذا ما كان يحدث للروهِنغيا، وكانت حكومة ميانمار سنداََ نشيطا لهذه العملية. نحن نعرف أن السياسيين المحليين كانوا متورطين في تخطيط عنف 2012. لقد نظّموا باصات كانت تُقلُّ رجالاً ونساءً من أنحاء راكين، وتأتي بهم إلى مدينة ستوي لحرق منازل الروهِنغيا. وقد حكى قوميو راكين، الذين نفّذوا عمليات القتل، كيف كان الطعام المجاني يُقدّم لهم، وكيف كانوا يُعطون الأسلحة. علاوة على ذلك، من المهم أن نفهم أن الإبادة العرقية لا تتعلق فقط بقتل الجسد، إنما أيضاً بتدمير الهوية العرقية للبشر. هذا ما كانت دولة ميانمار تشرع بفعله. 

أونغ سان سو، التي كانت فعلياً بمثابة رئيسة وزراء لأكثر من عام ونصف، استدعت السفير الأمريكي إلى مكتبها، وقالت له: إن «تعبير (الروهِنغيا) يجب ألا يُستعمل». اعتباراً من 25 آب 2017 كنا نشهد تصعيداً لهذه العملية برمتها. يستمر تدمير القرى بالرغم من إنكار حكومة ميانمار. نحن لا نعرف عدد الناس الذين قُتِلوا، لكن دون شك عددهم بالآلاف. أكثر من نصف مليون شخص قد فروا وعبروا نهر الناف إلى بنغلادش. لكن ما لا يفهمه معظم الناس هو أنهم يلتحقون بعدد يتراوح بين 500 إلى 700 ألف من الروهِنغيا الذين فروا منذ 2012. لذا، على طول الجانب البنغلادشي لنهر الناف، يوجد أكثر من مليون روهِنغي يعيشون ظروف مخيفة في مخيمات غير مسجّلة، في حين لا يزال بضع مئات الآلاف يعيشون في ولاية راكين. 

Reuters / Jorge Silva