انهيار الليرة والمعيشة معاً

الصورة تعبيرية من الإنترنت

بغضّ النّظر عن الأسباب الاقتصادية التي دفعت بالليرة السورية إلى تدهورها الأخير، مقتربةً من حاجز ال900 ليرة للدولار الواحد، إلا أن المؤكد أنّ انهيارها يُلقِي بظلاله بارِدة وقاسيةً على جلّ السوريين في الداخل، خاصّة الموظفين مِنْ أصحاب الرواتب الثابتة التي كانت تكفي -بالكاد- لتغطية جزءٍ مِن مصاريف أصحابها قبل الارتفاع المَهُول في أسعار كل شيء، فضلاً عن عُمّال اليومية وأصحاب الأعمال التجارية الصغيرة، دون أنْ تَسلَم أيٌّ من مناطق النفوذ لكافة الأطراف على الأرض السورية من ارتدادات الأزمة، وإنْ شهدت تفاوتاً ملحوظاً في آثارها على المحلّيّين من منطقة لأخرى.

يقول "أبو محمد" من أهالي مدينة الميادين المهجرين في مدينة الباب الخاضعة لسيطرة الجيش الوطني في ريف حلب الشرقي، أنّ الدخول إلى السوق لشراء غرض ما أشبه بمتابعة مؤشرات البورصة العالمية على قناة اقتصادية، فكلّ بائعٍ يضع على طاولته آلة حاسبة يُثمّن بها السعر الجديد لكل شيء يُشتَرى وإنْ كان "بسكويتة"، فيضرِب المبلغ القديم بنسبة زيادة الدولار جابِراً الكسور، ومعلناً "القيمة الجديدة" لبضاعةٍ قديمة اشتراها قبل غلاء السّلع النّاجم عن الأزمة الأخيرة.

يتابع أبو محمد ضاحكاً: "تدري اليوم مريت على محل صاحبنا آخذ من عنده علبة سمنة، لقيته مغلِّيها 200 ليرة، قمت رحت على محل ثاني لقيته مغليها 400 ليرة، رجعت عالأول أشتريها أرخصلي لقيته زايد عليها 300 ليرة، رحت عالثاني لقيته زايد 100.. واثنيناتهم يقولون: طلع الدولار ونزل الدولار.. فشلون ما أريد أحِسْها بورصة"

ورغم الغلاء الكبير في أسعار السلع -خاصة الغذائية منها- إلا أنّ حال "أبو محمد" وقاطني ريفي حلب الشمالي والشرقي الخاضع لسيطرة "الجيش الوطني"، يبدو أفضل بكثير من سكان المناطق الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، والذين لم تقتصر مصيبتهم على الغلاء الفاحش؛ بل جاوزتها إلى اختفاء عدد من المواد التموينية من الأسواق، في ما يبدو حالة احتكارٍ من التجار -كباراً ومحلّيّين- ترقُّباً لاستقرار سعر الصّرف أو طمعاً بمكاسب أكبر، مع استمرار انهيار الليرة التي يَتوقّع محللون أن تساوي 1000 منها دولاراً واحداً مع نهاية الشهر الجاري.

في البوكمال الخاضعة لسيطرة نظام الأسد، يستقلّ "سعيد" دراجته الهوائية إلى السوق لشراء كيلو سكر واحد، ويقول بأنه قد اضطر أنْ يمرّ بسبعة محلات ليجد لدى أحدهم ضالّته بسعرٍ "فلكيّ" على حد تعبيره. ورغم تأكده من توافر السلعة لدى من اعتذروا منه، إلا أنه يفهم تماماً أنّ ما يحدث أشبه بإعلان إطباق الحصار على منطقة ما، لتفرُغ من لحظتها الأسواق من كل شيء، لا لحالةِ الهلع التي تدفع الناس لشراء المواد التموينية بكثافة فقط، بل لحسابات الربح والخسارة التي تحكم التجارة الحرة.

يضيف سعيد: "يعني فجأة كل صحابين المحلات، وأوّل ما بلّشت الليرة نزول، صاروا يغلّوا الأسعار، ولما ما عاد توقف الليرة شافوا إنه اللي مشترينه ب 100 مبارح وبدهم يبيعوه ب 200 اليوم، إذا غبوه كم يوم ثانيات رح يبيعوه ب500 .. بهالبساطة يحسبها التاجر لما مابي حدا يقله لا"

ما يؤكد ما ذهب إليه سعيد هو أنّ المناطق الخاضعة لسيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) شرق الفرات لم تشهد فقدان أيٍّ من السلع الأساسية من أسواقها، رغم أنّ مصدر كثير منها هو مناطق النظام نفسها، ممّا يعني أنّ السلع متوفّرة ولم يتمّ قطعها من المصدر، بل من التاجر المحلّي في البوكمال وبقية مناطق النظام.

ولعلّ اعتماد منطقة شرق الفرات الكلّي في تجارتها على مبدأ "السوق الحر"، هو الذي حماها من فقدان السّلع، فحالة المنافسة بين طيف واسع من التجار، والثقة في استمرار تدفقها لوجود مصادر أخرى كتركيا عبر مناطق الجيش الوطني، هو ما يسمح باستمرار توفّرها لقاطني المنطقة. على أن وطأة الغلاء على قاطِني شرق الفرات أخف منها على سكان الشمال السوري المُحَرَّر، حيث تزامن انهيار الليرة مع انقطاع المحروقات القادمة من المناطق الخاضعة لسيطرة قسد. وبسبب دخول فصل الشتاء والحاجة الكبيرة للمحروقات، يجدُ كثيرٌ من الأهالي أنفسهم في حيرة الاختيار بين الضروري والأكثر إلحاحاً.

فبحسب "حسين" (من أبناء مدينة دير الزور يقطن في مدينة إدلب) أنّ أُجرته من عمله في محل تصليح جوالات لم تتغير في الفترة الأخيرة، وأنه يجِد نفسه منذ أسبوع تقريباً مضطرّاً للمفاضلة بين "المازوت" و"مونة البيت"، فيأخذ من مخصصات الثانية للأولى، أو يقرّر الاستغناء عن الأولى فترةً من الزمن.

أما خالد الذي يسكن مع عائلته بلدة البصيرة في ريف ديرالزور -الخاضع لسيطرة قسد- فيقول أن أثر ارتفاع الأسعار على المحروقات في المنطقة ليس كبيراً، لأن السكّان يمكن لهم أن يحصلوا على محروقات بسعر مُخَفّض على أساس دفتر العائلة، في ما يشبه البطاقات التموينية في سوريا سابقاً. "بس هاذ ما يعني إنه الناس مرتاحة" يضيف خالد، "يعني هسّا العيلة اللّي بدها تاكل طبخ بدها تحسب حسابها أنه رح تحط راتب موظف على ثلاث.. أربع طبخات.. لأنه كلشي صار نار."

ومع أنّ أثر انهيار الليرة السورية قد يتفاوت من منطقة لأخرى، إلا أنّ المؤكد أن التفاوت هذا لا يعدو كونه مقارنة بين حال سيّئ وأسوأ، وسلاح السوريين الوحيد في كلا الحالين: "الله يعدّيها على خير