الموسيقى والجريمة بين أم كلثوم وباخ وحسام وبوتين

من المرجح أن الموسيقار الروسيّ فاليري غرغييف لا يعرف شيئاً عن الرقيب حسام الذي كان يعذِّب المعتقلين لديه، في جناح الأمن العسكريّ في سجن حلب المركزيّ، ثمانينات القرن الماضي، على أنغام أغنيات أم كلثوم. ولا ضابط الكا جي بي السابق فلاديمير بوتين سمع باسم زميله السوريّ الأشقر الذي كان يرطن بأفكارٍ لفرويد وأرسطو، ويتلذذ بجلد أولئك التعساء الذين شاءت الأقدار أن يقعوا تحت سلطته. لكن الطرفين استخدما التقنية نفسها، الموسيقى، للتغطية على صرخات الألم الصادرة عن الضحايا.

سيتفوَّق السوريّ على الروسيّ في نقاطٍ عدة. فلنقارن:

قبل كلّ شيءٍ يملك حسام الأسبقية التاريخية، وإن كان لا يمكننا الافتراض بأن بوتين اقتبس ابتكار زميله السوريّ المغمور. ومن الصعوبة بمكانٍ التأكد من أن الرقيب حسام نفسه لم يقتبس من سوابق تاريخيةٍ محليةٍ أو عالمية، خاصّةً وأنه شابٌّ مثقف، كان طالباً جامعياً في النهار، وسجاناً في الليل، وليس هناك ما يمنع أن يكون قرأ عن هذه التقنية في مكانٍ ما، ما لم يكن شاهد تطبيقها في فروع المخابرات السورية.

وبما أن الغاية، لدى الطرفين، هي التغطية على أصوات الضحايا بصوتٍ أعلى، صادف أنه موسيقى، يتفوّق حسام، هنا أيضاً، في أنه نجح في التغطية –بسبب الشروط المكانية المؤاتية– مقابل فشل بوتين في حجب المجازر التي يرتكبها طيرانه في سوريا في حقّ المدنيين أمام الملأ، عن الرأي العام الذي نظر إلى حفلة تدمر الفضائحية بسخريةٍ واستهجان.

ثم إن حسام استخدم، لأغراضه الدنيئة، آلةً معدنيةً محايدةً هي جهاز التسجيل، مقابل استخدام الطاغية الروسيّ لأوركسترا كاملةٍ من بشرٍ، بل فنانين، يقودهم "موسيقارٌ روسيٌّ بارز" (غورغيف) كما عرَّفت به وسائل الإعلام، مما يعني بلوغ بوتين مستوىً من الحقارة لا يحلم بمثله رامي البراميل بشار الأسد، نفسه، الذي لا يجد من يوسّخه معه إلا أمثال المفتي حسون أو المهرج دريد لحام أو "الأديب" الفلسطيني رشاد أبو شاور أو أضرابهم.

شكر بوتين القائمين على "المبادرة الإنسانية الرائعة" حسب تعبيره، قاصداً "الموسيقار البارز" والفرقة "المشهورة". في حين سيقول غورغيف إن الحفل "سيكون احتجاجاً ضد البربر الذين دمروا آثار الثقافة العالمية". كان الرقيب حسام "من أعمال الأمن العسكريّ" أكثر تواضعاً وخجلاً، حين كان يبرّر فظاعاته بمبدأ أخلاقيٍّ هو "الواجب" الذي يسنده إلى فلاسفةٍ كبار، تعزيزاً لتبرّؤه مما تقترف يداه الساديتان.

واعتبر بوتين أن الحفلة "تعبر عن الشكر لجميع أولئك الذين يحاربون الإرهاب، وتخليداً لذكرى جميع ضحايا الإرهاب، بغضّ النظر عن الأماكن والتواقيت التي وقعت فيها هذه الجرائم ضد الإنسانية".

لا يمكن الافتراض أن بوتين لا يعرف بشأن المحاكم الميدانية التي كانت تحكم بالإعدام على سجناء تدمر، مطلع ثمانينات القرن الماضي، وتباهى بشأنها وزير الدفاع، آنذاك، مصطفى طلاس، ذات مرّة، قائلاً إنه كان يوقع كلّ أسبوعٍ على عشرات أوامر الإعدام. كذا لا يمكن الافتراض بأنه لا يعرف بشأن المجزرة الرهيبة التي ارتكبتها سرايا الدفاع التابعة لرفعت الأسد، على مسافةٍ قصيرةٍ من مكان حفلة غورغيف الدموية، انتقاماً من محاولة اغتيالٍ تعرّض لها حافظ، في حزيران 1980.

ترى هل هو عقله الباطن ما دفعه إلى التلفظ بتلك الجملة الإنشائية عن "تخليد ذكرى جميع ضحايا الإرهاب" الذين يعرف بوتين المقابر الجماعية التي تضمّ عظام قسمٍ منهم في صحراء تدمر، هو القسم الذي كان من ضحايا الأسد، حليف الاتحاد السوفياتي أيام كان، هو، ضابطاً في جهاز مخابراتها المرعب؟

وحده انحطاط العالم الشديد اليوم، كما نرى تجليه الأبرز وليس الوحيد، في الموقف المتفرّج على جريمةٍ بحجم المأساة السورية الرهيبة، هو ما يسمح للجزار بوتين أن يصوّر إجرامه على أنه فنٌّ خالص: موسيقى باخ وشيشدرين وبروكوفييف، بأداء "الموسيقار الروسيّ البارز" الذي فلسفَ فعلته القبيحة على أنها صرخة احتجاج "حضارية" في وجه "البربرية".

بربرية تقصف رقبتك يا حذاءً في قدم طاغية.