المراصد... جنودٌ مدنيّون تُرفع لهم القبّعات

"تعميم...تعميم.."، "انتباه يا إخوان مروحي براميل في أجواء المدينة باتجاه الشمال"، "الطيران المروحي نفذ. تحصن يا بطل"، "التنفيذ فوق الحارة الشمالية"، "انتبه يا كفرزيتا أنت على مسار السيخوي"؛ جملٌ لا تفارق الأسماع وتنبيهاتٌ تطلقها المراصد الميدانية. بتلك العبارات يُحذَّر سكان المناطق المحرّرة كي يهرعوا إلى الملاجئ البسيطة التي حفروها تحت الأرض.

تستخدم المراصد أجهزة التقاط إشارةٍ حصلت عليها عن طريق التهريب من دول الجوار أو من داعمي الثورة السورية. تعمل هذه الأجهزة على التقاط المكالمات التي يجريها الطيار مع القاعدة وبالتالي معرفة وجهة الطائرة في بعض الأحيان وهدفها. وفي الوقت نفسه يعمل الراصدون على تعميم المعلومات التي تردهم من أشخاصٍ يعيشون قريباً من المطارات، ينقلون لهم -عبر قنواتٍ خاصّةٍ- معلوماتٍ عن الطائرات المقلعة أو الهابطة. وتقوم المراصد بتعميم المعلومات على المراصد الأخرى وعلى المواطنين.

يقول أبو حمزة، العامل في المرصد 80 بريف حماة: "نترقب حركة الطيران منذ إقلاعه من المطار، ونعمّم ذلك على السكان. ونبقى متيقظين وحذرين ومتابعين للطائرة. ونعمّم، عبر الأجهزة اللاسلكية، مكانها والموقع الذي يتوقع استهدافه حتى لحظة تنفيذ الهدف. ثم نعمّم الطلب من فرق الدفاع المدنيّ والإسعاف التوجّه إلى مكان الحدث إن اقتضى الأمر. ونطمئن المواطنين عند خلوّ الأجواء من الطيران ليخرجوا من ملاجئهم ويعودوا إلى حياتهم الطبيعية".

يقلل وجود هذه الشبكة -التي تنتظم شيئاً فشيئاً- عدد الضحايا المدنيين في المناطق المحرّرة، من خلال إرسال التحذيرات والتنبيهات عبر الأجهزة اللاسلكية التي تسمّى (بالقبضات). وهي وسيلةٌ جديدةٌ ناجحةٌ في نقل المعلومات عن حركة الطيران وقوّات النظام، وخاصّةً أوقات إقلاع الطائرات. وبالتالي فإن دور القائمين على تلك المراصد لا يقلّ أهميةً عن دور الثوّار على جبهات القتال.

ولم تعد مهمة المراصد تقتصر على رصد حركة الطيران في الأجواء، بل عملت على اختراق مراصد النظام في المطارات وفي قواعده العسكرية والتشويش عليها. وأصبحت بعض المراصد مكاتب إعلاميةً لا تقتصر على شخصٍ واحدٍ بل تدار من عددٍ من المتطوّعين للعمل على مدار اليوم، كثيرٌ منهم يعمل على توثيق القصف بدقةٍ متناهيةٍ ويحتفظ بأرشيفٍ للقصف في المناطق التي يغطونها ويصل إليها صوتهم.

وفي الآونة الأخيرة راحت بعض المراصد تبثّ نشراتٍ إخباريةً منتظمةً ينتظرها الناس وتلقى رواجاً كبيراً بسبب استخدامها اللهجة المحكية المحلية، وبسبب انقطاع الكهرباء وصعوبة متابعة الأخبار عبر الوسائل الأخرى، بالإضافة إلى أن جهاز الاستقبال (القبضة) صار موجوداً في كلّ منزلٍ ومفتوحاً بشكلٍ دائمٍ نظراً لأهميته في متابعة حركة الطيران. وصارت المراصد تعمّم أوقات الإفطار والسحور في رمضان، لأن الكثير من العائلات هجرت القرى والبلدات واستقرّت في أماكن بعيدةٍ عن التجمّعات. وتقوم بعض المراصد بالتعميم على المفقودات أو الأشياء التي يعثر عليها الناس.

ولكن للمراصد أخطاءٌ كثيرةٌ أيضاً. إذ يقوم بإدارتها وتشغيلها -على الغالب- رجالٌ ليست لديهم أيّ ثقافةٍ أو إدراكٍ لأهمية بعض المعلومات العسكرية، فيتناولونها ويعمّمونها دون تدقيقٍ مما يتسبّب أحياناً في قتل أبرياء، عندما يستبقون الأحداث ويعلنون تحرير قريةٍ ما فيسارع أهلها إلى الذهاب إلى منازلهم للاطمئنان عليها فيفاجأون بأن جيش النظام لم يخرج منها، ويتورّط بعض الإعلاميين بتبنّي هذه المعلومات الخاطئة التي تنشرها المراصد دون التأكد منها. كما تؤجّج بعض المراصد الخطاب الطائفيّ وتزرع الكراهية لأنها لا تدرك أهمية الإعلام والرسالة التي تنشرها بين الناس.

ومن أكثر العقبات التي تعترض عمل المراصد عدم انتظام دعمها، وقِدَم التجهيزات مما يسهّل على قوات النظام التشويش عليها، وكذلك صعوبة تأمين الكهرباء. أما العقبة الأكبر في الفترة الأخيرة فهي عدم فهم ما تقوله محادثات الطيران الروسيّ، ولذلك بدأت بعض المراصد بالعمل على تدريب شبابٍ على اللغة الروسية على أمل أن تصل أجهزةٌ حديثةٌ تلتقط مكالمات الطيران الروسيّ مع القاعدة لعلهم يخففون من أثر دخول هذا الطيران المعركة ضد الشعب السوريّ.

تتخذ المراصد من الأماكن المرتفعة مكاناً لها ليسهل التقاط الإشارات وإرسالها، ولسهولة مراقبة حركة الطيران بالعين المجرّدة. من على تلةٍ مرتفعةٍ في ريف إدلب حدثنا المرصد رجب قائلاً: "أستطيع مشاهدة الطائرة من مسافاتٍ بعيدةٍ باستخدام المنظار، يساعدني على ذلك المكان المرتفع الذي أتخذه مكاناً لإقامتي. وصوتي يصل إلى الحدود التركية".

حربٌ كبيرةٌ يخوضها السوريون باستخدام وسائل بدائيةٍ ليس فقط في مجال التواصل والإشارة بل في التجهيزات العسكرية، في ظلّ تخلي معظم أصدقاء الشعب السوريّ عمّن بقي من السوريين.