فاجأ الظهور الإعلاميّ لأشهر جزاري النظام، اللواء جميل الحسن، جميع متابعي الوضع السوريّ، في مقابلةٍ مع وكالة أنباء سبوتنيك الروسية، قبل أيام.

ففي العادة لا يظهر ضباط أجهزة المخابرات السورية على الملأ ليطلقوا تصريحاتٍ يعبرون فيها عن «آرائهم» بشأن أوضاع البلد. حتى حين كان اللواء الراحل محمد ناصيف يقوم بدورٍ دبلوماسيٍّ في العلاقة مع إيران، حين اخترع له منصب «معاون نائب رئيس الجمهورية»، كان يتجنب عموماً وسائل الإعلام.

وبصورةٍ أوسع، لا يظهر على وسائل الإعلام، في نظام الأسد، إلا عددٌ محدودٌ من رجاله: الرئيس ووزير الخارجية، أساساً، في حين يظهر رئيس الوزراء وعددٌ محدودٌ من الوزراء للتحدث عن الشؤون الخدمية التي يختصون بها. وقد يكلف رئيس مجلس الشعب، أحياناً، بإطلاق تصريحاتٍ حادةٍ ضد دولٍ أو قوى خارجية، حين لا يراد لتلك التصريحات أن تُحمل على محمل الجد، بل تستخدم كنوعٍ من الابتزاز الإعلاميّ، وهو ما ينطبق أيضاً على وزيري الدفاع والإعلام.

صحيحٌ أن النظام تغير كثيراً خلال السنوات الست الماضية، وتوزعت السلطة فيه على أمراء الحرب الذين أصبحوا حكاماً في إقطاعاتهم لهم مصالحهم المستقلة، فضلاً عن ارتهانه الكامل لروسيا وإيران وحزب الله، وما يعنيه كل ذلك من ضعف رأس النظام في المعادلات الداخلية، لكن كل المؤشرات المتوافرة تشير إلى استمرار كونه القطب الوحيد الذي يتماسك حوله النظام ككل.

القصد أنه من الخطأ اعتبار مقابلة جميل الحسن نتيجة قرارٍ شخصيٍّ منه، على ما ذهب الباحث في «مؤسسة كارنيغي للسلام» أرون لوند في مقالته حول الموضوع. بل هو قرارٌ من النظام، ربما باقتراحٍ من اللوبي الإعلاميّ الذي يعمل في خدمته، أو باقتراحٍ من الحليف الروسي.

جاء مضمون المقابلة مدروساً بعنايةٍ يفتقد إليها رأس النظام والفريق الإعلاميّ «الظاهري» له. فكل من يقرأ المقابلة يلفت نظره، قبل أي شيء آخر، إعلان الحسن عن اختلافه المزعوم مع «القيادة السياسية» كما يسمون رأس النظام، في شأن سبل معالجة «الأزمة». فالحسن يرى أن بشار الأسد تعامل بمرونةٍ زائدةٍ مع حركة التمرد في بداياتها. ولو أنه فعل ما فعله حافظ الأسد في حماة سنة 1982، لما وصلت الأمور إلى ما هي عليه اليوم، على ما يقول رئيس شعبة المخابرات الجوية المسؤول عن قتل آلاف المعتقلين تحت التعذيب في فروعها المنتشرة في المدن السورية.

يعود الحسن بذاكرته إلى حماة 1982، التي شارك في حرب النظام عليها كضابطٍ صغيرٍ برتبة ملازم، مستلهماً تلك الجريمة المؤسّسة كنموذجٍ قابلٍ للتكرار، في رأيه، لمواجهة ثورة السوريين في 2011. وإذ تسأله سبوتنيك عما كان لحافظ الأسد أن يفعل لو كان على قيد الحياة في المواجهة الراهنة، يبحث الحسن عن مبرراتٍ لرئيسه بالقول إن بشاراً واجه ظروفاً أصعب بكثير مما واجه أبوه.

ذهبت بعض التفسيرات لظهور جميل الحسن وتصريحاته إلى احتمال كونه «رجل موسكو» البديل عن بشار حين يحين موعد ترحيل هذا الأخير، وهي لحظةٌ لا مفرّ منها بصرف النظر عن نتائج الحروب الدائرة على الأرض السورية. لكنه تفسيرٌ يفتقد إلى التماسك. فقد يكون من المناسب أكثر إعداد هذه الطبخة الروسية المفترضة بعيداً عن الأضواء، فضلاً عن أن تصريحات الحسن هي حرقٌ له لا تمهيدٌ لصعوده، على فرض أن الأسد وأركان نظامه قابلون للحرق المعنويّ كما سائر البشر والكائنات.

الرسالة التي أراد النظام إيصالها إلى كل من يعنيهم الأمر هي أن بشار هو الأقل عنفاً، أي الخيار الأقل سوءاً من غيره. ولسان حاله يقول: هل تريدون أن يحكمكم جميل الحسن أو أحد أشباهه من «مؤسّسات الدولة» التي يريد الروس والأميركيون الحفاظ عليها؟ بكلماتٍ أخرى: هل تريدون الأسد أم تريدون «نحرق البلد» الذي هو جميل الحسن؟