الذهب الأخضر

هي قصّة حبٍّ قديمةٌ تربط أبو حسن وحقله المبارك. سنةً بعد سنةٍ تكبر شجيراته، فتبادل معهنّ العطاء طيلة عمره. يجني أبو حسن، ذو الثمانين عاماً، موسم غراسٍ زرعها قبل خمسين عاماً: "علاقتي بهذه الشجرة تماماً كعلاقتي بأولادي، أرعاها وتعيلني، أقدّم لها وتعطيني، أرويها بعرق ساعدي فتغدق عليّ بخيراتها وعطائها".

يحدثنا أبو حسن، وهو يتأمل حبّات الزيتون التي تداعبها نسمات الهواء الباردة في صباح خريفيٍّ، ويقول: "يلجأ أغلب المزارعين في سوريا إلى القطاف اليدويّ بالرغم من الصعوبات التي نواجهها، من تأمين عمالٍ للقطاف ومعدّاتٍ بدائية. فهو محصولٌ سنويٌّ إن لم نحسن قطافه لن تثمر الشجرة في العام الذي يلي".

إذ تؤثر طرق قطاف الزيتون ونقله على جودة المحصول ونوعية الزيت. وتختلف هذه الطرق من مزارعٍ إلى آخر، فهناك القطاف اليدويّ والقطاف بالعصا والقطاف الآليّ. ويعدّ القطاف اليدويّ أفضل الطرق وأقلها تأثيراً على حبات الزيتون، في حين أن الضرب بالعصا يؤذي الشجرة ويجرحها ويكسر أغصانها، كما يؤدّي إلى ضياع كمياتٍ كبيرةٍ من الثمار، وكذلك يزيد نسبة الإصابة بذبابة أغصان الزيتون. أما القطاف الآليّ، الذي يعتمد على هزّ الجذع (أمشاط آلية)، فلم يلقَ اهتماماً من المزارعين لأنه يتطلب أن تكون الأشجار على ساقٍ واحدةٍ وذات شكلٍ هرميّ، في حين أن معظم الأشجار في سوريا لها شكلٌ كرويٌّ وتمتلك أكثر من ساق، بالإضافة إلى صعوبة نقل هذه الآلات إلى حقول الزيتون، خاصّةً بعد هطول الأمطار، وارتفاع أسعار هذه الآلات.

بعد القطاف ينقل المزارعون محاصيلهم إلى السوق وإلى المعاصر، التي تعتمد على الضغط (المكابس) وتعمل بمبدأ الطرد المركزيّ الحديث، وتعصر الزيتون على البارد، ويطلق عليه "زيت عذري" أو "بكر". وقد بلغ عدد المعاصر في سوريا حوالي 1097 معصرةً تقريباً. أما عن موسم هذا العام فيقول أبو علي الأكتع، وهو تاجر زيتٍ في سلقين: "من المتوقع أن تغطي كميات الزيت احتياجات القطر. يجني المزارعون هذه السنة أرباحاً أفضل مما كانت عليه في الموسمين السابقين، بسبب الهطولات الجيدة للأمطار وعودة الأمن إلى أغلب الأراضي الزراعية بادلب. وقد بلغ إنتاج الشجرة الواحدة ما يقارب 25 كيلو زيت وسطياً، في إدلب التي تعدّ أولى المحافظات في الإنتاج. وبلغ سعر الكيلو 250 ليرة سورية، أما سعر التنكة فوصل إلى 13 ألف ليرة".

يقول أبو حسن، أحد التجار في مدينة إدلب: "قمنا بشراء كمياتٍ كبيرةٍ من محصول هذا العام -طبعاً بعد التأكد من جودتها- بسعرٍ يتراوح بين 10 و11 ألف سورية ليرة للتنكة الواحدة، لأن الأسعار سترتفع على الغالب بسبب تراجع العملة السورية. سنبيع بعضها في الأسواق المحلية والبعض الآخر سنخزّنه ريثما نحصل على صفقة تصديرٍ مناسبةٍ إلى الأسواق الخارجية".

حدّثنا المهندس الزراعيّ رياض أحمد: "يجب أن لا يترك الزيتون أكثر من ثلاثة أيامٍ قبل عصره، كيلا تحصل تخمّراتٌ تحوّل لونه الأخضر إلى أسود. وبعد عصره يجب التقيد بتعبئته بعبواتٍ معدنيةٍ مغلفةٍ وعدم استخدام العبوات البلاستيكية، حتى لا تتأثر جودة الزيت".

وألقت الأوضاع السورية بحملها على إنتاج الزيت في القطر، وخاصّةً في المناطق المتوترة. فوصول المزارعين إلى حقولهم بات أمراً محفوفاً بالمخاطر، فضلاً عن اضطرار الكثير منهم إلى الرحيل عن بلداتهم، لتصبح أشجار الزيتون تحت رحمة حطابي خشب التدفئة، أو تركت كما هي دون عنايةٍ أو سقاية.

أما عن كيفية تلافي المشاكل التي تواجه هذه الزراعة فيضيف المهندس رياض: "تجب المحافظة على استمرار زراعة حقولٍ جديدةٍ من أشجار الزيتون، وخاصّةً الأنواع السورية المعروفة بإنتاجيتها العالية، لأنها تعدّ من أفضل السلالات في العالم، واستيراد الأصناف التي تتناسب مع البيئة والمناخ السوريّين. وتجب إعادة زراعة الحقول التي حرقها النظام أو الحطابون. بالإضافة إلى زراعة الأصناف التي يمكن أن تنمو في المناطق الشرقية من سورية، وبالتالي الاستفادة من مساحاتٍ شاسعةٍ شبه جرداء. ويجب أن تفتح المعابر، وخاصّةً مع تركيا، لتصدير الزيت إلى الخارج وتأمين الأدوية والمبيدات الحشرية والأسمدة لتطوير هذه الزراعة". ويضيف: "علينا تشديد الرقابة على الزيت المتوافر في الأسواق منعاً للغش وللمحافظة على سوية واسم الزيت السوريّ".

تحدثت أغلب الديانات عن هذه الشجرة المباركة التي عُدّت أغصانها رمزاً للسلام، ووجدت منذ أن وجد الإنسان. ووُصفت بالذهب الأخضر لأنها تعني النماء والعطاء والخير الوفير.