الدين والشوايا

اللوحة للفنانة وداد الأورفلي

هبت، منذ أيام، عاصفة قادمة من ألمانيا. سببها تعليق أحد اللاجئين السوريين هناك على فيديو للشيخ حسان الدباغ يتكلم فيه عن طريقة ذبح الحيوانات. يقول التعليق: «كنا بسوريا نشتري اللحمة من عند اللحام يلي منضمن أنو لحمتو تازة ونضيفة، لا بهمنا أصلو ولا فصلو. وأغلب دبيحة ولحامة العيد شوايا من مناطق ما بتعرف الدين أساساً، مع احترامي لكل الشوايا».

اللافت للانتباه ليس التعليق الغبي ذاته، فطريقة الذبح من الأمور التي يتعلمها أبناء المنطقة بحكم العادة، بل الردود عليه من أبناء المنطقة الشرقية خاصة، عبر مقالات وفيديوهات وتعليقات، تعبر عن رؤيتهم لذاتهم وللعالم.

بالطبع، ليست هذه العاصفة الأولى من نوعها، ولن تكون الأخيرة، لكنها تأتي في وقت تتبلور فيه المنطقة ثقافياً بأكثر من اتجاه، بالتوازي مع تبلورها الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الجديد. فإذا كانت قد شهدت منذ نصف قرن انتقالاً إلى اقتصاد تحكم الدولة القبض على مفاصله مع مكننة الزراعة، وتخلخلت بناها الاجتماعية مع تمدد حزب البعث والجمعيات والنقابات، وشهدت انتشاراً لثقافة القانون، وفوق ذلك لشعائر الدين؛ فإنها تشهد اليوم انتقالا إلى اقتصاد منفلش أحد أعمدته التجارة الحرة، وخلخلة اجتماعية أخرى مع ظهور المنظمات والفصائل، وبروزاً لثقافة نقل الصورة عن الذات للآخر، وتعميماً لنمط من الدين. وليست العشيرة بعيدة عن ذلك كله.

وبغض النظر عن الردود التي نالت من صاحب التعليق نفسه، والتي عبرت عن صراع أدوار يتعلق بتمثيل السوريين ثقافياً في ألمانيا، فالمعلق مؤسس البيت السوري في ألمانيا وأحد ممثلي الجالية هناك، وبغض النظر كذلك عن التعليقات التي حاولت أن توضح سبب تسمية الشوايا بهذا الاسم بطريقة مواربة، حين خلطت الحشمة والكرم والشجاعة والنسب بالدين، محاولة عبر هذه الصفات إثبات تدين أهل المنطقة، وتقف خلف هذه التعليقات حساسية من استعمال الغير لوصف الشوايا، رغم أنه مستعمل بين أبناء ريف دير الزور بأريحية؛ إلا أن المهم في الأمر هو التعليقات التي عبرت عن استيائها من نزع الدين عن الشوايا، وقد كانت الأصوات الأعلى في عين العاصفة، ويمكن من خلالها تلخيص الفكرة السائدة اليوم بين جزء لا يستهان به من أبناء المنطقة في دول اللجوء: «نحن متدينون بالأساس، ويجب تقديمنا إلى الآخر على أننا متدينون». وربما كان لهذه الفكرة علاقة بنفي فكرة أخرى مفادها أن «تنظيم الدولة علّم الناس الدين»، وهي فكرة ليست ضيقة الانتشار.

يقول ياسين الحافظ في مذكراته عن أواخر الأربعينيات، حين كان معلّماً في ريف دير الزور: «كان أبناء القرية لا مبالين دينياً. صحيح أنهم ينطقون بالشهادتين إلا أن القرية كانت من غير جامع، وكان عدد من يصلون من أبنائها محدوداً، من جملتهم المختار. وكان من يصلي يعتبر فهيماً ومثقفاً لأنه يعرف الفاتحة. وبين جرابلس والبوكمال لا أظن أنه كان هناك مساجد في القرى». ثم يتابع متكلماً عن الفترة التي سُجلت فيها مذكراته عام 1978: «إلا أنه بذلت في الآونة الأخيرة جهود كثيرة لبناء جامع أو أكثر في كل قرية». وقبله يقول وصفي زكريا: «العرب إسلامهم على فطرته الأولى بعيد عن التعاليم». ويقصد بالعرب أبناء العشائر الجمالة (أهل الإبل، البدو) والعشائر الغنامة (أهل الشياه، الشوايا). كما يورد في كتابه «عشائر الشام» العديد من الآراء التي تدور حول هذه الفكرة. أما المستشرق ماكس أوبنهايم، في كتابه «البدو» الذي يرصد فيه عشائر العكيدات والبكارة وعشائر أخرى، فيقول: «البدو مسلمون وهم يلهجون على الدوام بذكر الله الذي لا يفارق اسمه أفواههم، لكن بالكاد تجد بين بضعة آلاف منهم واحداً يعرف شعائر الصلاة». وسجلت الرحالة آن بلنت الملاحظة التالية: «بالنسبة لأخلاقية البدو فهم يختلفون فيها عنا كما يختلفون في طريقة التدين. فنحن نلتزم بأخلاقية تنبع من تشريعات إلهية معينة، أما بالنسبة لهم فإن هذه الأخلاقية تكون نتيجة لممارسات طبيعية للأمور».

فكون المنطقة لا تعرف شعائر الدين ليس أمراً على درجة عالية من الغرابة في تلك الفترة، كما أنه ما زال معروفاً في بعض التجمعات في المنطقة، ولم ينظر إليه على أنه أمر مستهجن إلا مع محاولات تعميم التدين، بل وضع في إطار الفطرة والطبيعة. لكنه سيبقى غريباً أو مربكاً لمن ينظر إلى المشابهين له في الانتماء أو الهوية (الشوايا) على أنهم متماثلون معه في الثقافة (الدين)، التي ينظر إليها كشيء جامد ونهائي. فليس مستغرباً، والحال هذه، أن يطالب الكثيرون في تعليقاتهم بعدم تعميم الأحكام التي تخص الجهل بالدين على أبناء المنطقة، على أن الحقيقة أن تلك المطالبة هي تعميم من نوع آخر، يسبغ رؤيته عن الدين على الآخرين الذين يراهم بمكبرة منتزعة من الذات، لتظهر المطالبة بعدم التعميم في النهاية وكأنها دفاع عن أنفسنا، إذ إن ما لدينا هو «الحق».