الدرّاجات النارية الحرّة!

قد تكون الدرّاجة النارية أكثر من وسيلة نقل، فهي سلوكٌ في بعض الأحيان، وهي موقفٌ أو نمط حياةٍ في أحيانٍ أخرى.

ينطلق أحمد (16 عاماً) بدراجته النارية عصر كلّ يومٍ في شوارع العشارة - شرق دير الزور - بعد أن يخضع دراجته لحفلة غسيلٍ أمام منزله، وتزيينٍ بآخر الإكسسوارات التي تعرض في السوق. ويحرص، قبل مشواره اليوميّ، على أمرين؛ أن تكون علبة التبغ من نوع (الجلواز الأحمر) مختومةً في جيب قميصه، وأن تكون المرآة نقيةً ليرصد من خلالها تعابير وجوه سائقي السيارات التي يتجاوزها، ويلتقط كذلك ردود أفعال الجالسين على أرصفة منازلهم على عبوره المغرور أمامهم. بخلاف التقاليد، لا يحب أحمد إلقاء السلام. فهو، وبحسب قوله، يتجنب تمتين العلاقات مع أيٍّ كان. فله تجربةٌ سيئةٌ حين نشط في الاغاثة، اذ سمع أطرافاً من أحاديث تشكك بنزاهته. ليكفّ بعد ذلك، وبحسب قوله أيضاً، عن التعامل مع المدنيين. ولينصرف بكلّ طاقته لمساعدة الجيش الحرّ، ويتفرّغ لخدماته مدةً لا بأس بها، دون أن يهتم لهذه الخدمات أحد. ولينصرف أخيراً إلى شؤونه الخاصة. فقد أدى واجبه، ومن أراد أن يكمل الثورة فليكملها، وليترك أحمد يلفّ قبضة البنزين على مقود دراجة part التي اشتراها مؤخراً بعد جهدٍ وأحلامٍ واستدانةٍ وتقسيط، وينطلق.

سفير جهنم أو قاهر الأسد

لم يستقرّ الرأي بعد، عند أحمد، على عبارةٍ مناسبةٍ تُخَطّ على لوحةٍ صغيرةٍ في الخلف أو على جانبي الدرّاجة. هو يهزأ من العبارات التي اختارها أقرانه، لكنه يتذمر في سرّه من ظهور ما كان يفكر فيه على دراجات الآخرين، وهم كثرٌ جداً. "ألف مطور في العشارة وحدها"، يقول أحمد واصفاً الطفرة في اقتناء الدرّاجات. ويتحدث آخرون عن "مئات المطورات القادمة من تركيا كلّ شهر". والمؤكد أن أعدادها تضاعفت مرّاتٍ في مدن دير الزور وبلداتها بعد التحرير. ففي العهد الأسديّ اتهمت عائلة شاليش في الساحل السوريّ، بحسب هواة الدراجات النارية، باحتكار تهريبها. وتغيرت الأحوال اليوم بعد انفلات الحدود، لتنخفض أسعارها وتتعدد أنواعها، مع حفاظ نوع part الصينيّ على تفوقه عددياً بينها.
وبالعودة الى أحمد والعبارة التي يريدها علامةً لدراجته، بعد أن استحوذ المنافسون على أبرز العبارات وأبلغ الأسماء، فهو يريد شيئاً من قبيل "سفير جهنم" أو "قاهر الأسد"، لأنها توحي بالقوة والخطورة. ويعجب بـ"لا تصفن تدوخ... أهل النفط صاروا شيوخ"، فهي ناقدةٌ وحكيمةٌ تلخص تغيرات الزمان وتعبّر عن ارتفاع شأن من لا شأن له، لكنها طويلة. وأما "عين المدينة" التي اختارها صديقٌ للمجلة لتكون عنواناً لدراجته فهي، بالنسبة لأحمد، عبارةٌ خاليةٌ من المعنى. ويعلق الصديق الساخر للمجلة بأن "المعنى في قلب الشاعر". لكن أحمد يبدو في مستوىً درّاجيٍّ أعلى، رغم تفهمه لخيارات السفير والقاهر ولا تصفن وعين المدينة، ورغم تفهمه أيضاً لتعلق نفرٍ من الدرّاجين ببعض شعارات الثورة الأولى، كـ"هي لله" و"ننتصر أو نموت". ولا يؤاخذ أحمد، بحسب رأيٍ نهائيٍّ قاله خلال سهرةٍ حافلةٍ على رصيف أحدهم، إلا من يتفاخر بعشيرته، ويحاول أن يحتكر لها الأسبقية في الثورة، وينسب إليها وحدها فضائل الهجوم والتحدّي وإلحاق الهزيمة بقوّات بشار. وبعد أن يشغل أحمد دراجته ينتقل الحديث، ودون تسلسلٍ منطقيّ، إلى أهم يومٍ في تاريخ الدراجات النارية بدير الزور؛ يوم هوجم كراج حجزها القريب من مقبرة الشهداء من قبل بعض المشيعين الغاضبين.

حفلة الدراجات الدامية

دراجات2

يتذكر سكان مدينة دير الزور ذلك الغروب الدامي في منتصف الشهر السابع من العام 2011، حين شيع عشرات الآلاف شهيداً إلى المقبرة، وحين هاجم العشرات منهم بُعيد التشييع كراج حجز الدراجات النارية القريب من المقبرة، ليسقط بعضهم قتلى خلال المواجهة مع قوات المخابرات هناك. أثارت هذه الحادثة في حينها استياءً كبيراً لدى الرأي العام المتسم بالسلمية ونبذ العنف والحرص على الممتلكات العامة في ذلك الوقت.لكنها لم تخلف الانطباع نفسه لدى بعض هواة الدراجات النارية من الثوّار، بل على العكس، إذ رأوا فيها تحطيماً لغطرسة عناصر الأمن وإجرامهم بحق عشرات الدراجات النارية التي أحرقت قبل ذلك على الحواجز وفي المداهمات أمام عيون أصحابها، بسبب استخدامها في أعمال الثورة وأنشطتها المختلفة، مثل توزيع المنشورات وإلصاق النعوات وتوزيع الثلج على المتظاهرين، وتقدّم الدراجات قبل الحشود كاستطلاعٍ للشوارع، أو أن يشكل الدرّاجون قافلةً طويلةً تحمل علماً، أو ينفرد درّاجٌ ماهرٌ بحمل رايةٍ مرتفعةٍ جداً. وبحسب أرقامٍ غير مؤكدةٍ بلغ عدد الدراجات المحرّرة أو المسروقة بعد الهجوم على كراج الحجز (500) دراجة، بيع بعضها على عجلٍ وبأسعارٍ هبطت إلى أقلّ من ألف ليرة. بينما عمل متظاهرو ساحة المدلجي على تعديل الصورة بجمع ما تمكنوا من جمعه منها، ثم الاعلان عنها في مكبّر الصوت بساحة الاعتصام ليستعيدها ملاكها الأصليون قبل المصادرة.
ما زالت اليوم، وبالرغم من وفرة السيارات، للدراجات النارية أهميتها لدى الثوّار الذين حملوا السلاح. إذ يقوم الدرّاجون بمهماتٍ قتاليةٍ على الجبهات تتطلب السرعة والخفة، أو بأعمال الاستطلاع العسكريّ، أو حتى بعمليات إخلاء الجرحى أثناء المعارك.