الخمور في دير الزور من الفرنسيّين إلى داعش

رغم تناقل البعض لها قد تبدو غير حقيقيةٍ حكاية حاجز تنظيم الدولة الإسلامية الذي أجبر أحد مهرّبي الخمور على شرب بوله، كعقوبةٍ إضافيةٍ، بعد القبض عليه ينقل بسيارته مشروباتٍ كحوليةً إلى الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم، لكن الحكايات الأخرى لا تقلّ غرابة.

فبحسب أحد عناصر شرطة مدينة الميادين احتجزت المحكمة هناك أحد مدمني الخمور لمدّةٍ شهرٍ أجبرته خلاله على تناول الزبيب فقط لعلاجه من الإدمان، بعد أن اعتقل أكثر من مرّةٍ بسبب تعاطي الخمر وطبّقت العقوبة عليه الجلد. والأكثر غرابةً أن حكم أكل الزبيب قد صدر من البغدادي مباشرةً، كما يقول العنصر.

يرى البعض أن قلة الأخبار عن معاقبة التنظيم شاربي الخمور سببها تنفيذ العقوبات داخل السجون (دون تشهير)، بخلاف العقوبات الأخرى التي تنفذ أمام الأهالي، بعد دعوتهم إلى حضورها بمكبّرات الصوت، كتلك التي تكون عقوبتها القتل أو قطع اليد. بل إن البعض رأى أن مشهد جلد شارب خمرٍ في أحد إصدارات التنظيم هو مجرّد تمثيل، لأن العنصر الذي نفذ الجلد عانق المدان بعد الانتهاء من تنفيذ العقوبة. كما أن ما ساعد على مرور تلك العقوبات دون صدىً كبيرٍ أن العديد من الجهات في سوريا الآن تعتمد الجلد عقوبةً لشاربي الخمور.

يعود الظهور الأول للمشروبات الكحولية في مدينة دير الزور إلى نهايات العهد العثمانيّ، حسبما يقول عبد القادر عيّاش في مجلته "صوت الفرات". وحمل الانتداب الفرنسيّ حضوراً جديداً لهذه المشروبات عبر جنود حامياته والموظفين المدنيين من غير المسلمين في إداراته. وفي خمسينات وستينات القرن الماضي اتسعت دائرة شاربيها إلى الحدّ الذي بلغ فيه عدد الخمّارات في الستينات 13 في مدينةٍ لم يتجاوز عدد ساكنيها الأربعين ألفاً، حسب إحصاءٍ نقله عيّاش في المجلة ذاتها. كانت المشروبات الكحولية تأتي من حلب، واحة لهو كبار ملاك الأرض والأثرياء الآخرين من المدينة وشيوخ العشائر ووجهائها من الريف، في حين شكلت الشام أو دمشق مدرسةً أخرى لم يتعلم منها طلاب الجامعة الديريون "شرب العرق" فقط، بل تعلموا أيضاً أن يكونوا قوميين عرباً (بأنواعهم) واشتراكيين (بأنواعهم). ومع هذه الفئات "العليا" لم يكن الشرب مستنكراً إلى الحدّ اللازم في مدينةٍ سنّيةٍ عربيةٍ، بل حمل في بعض جوانبه مظاهر "رقيّ وتحضّر" الشاربين. وفي شرداق حج رزوق، وفي مطعم القاهرة الشتويّ المملوك للحاج نفسه، ظهر تمايزٌ اجتماعيٌّ على أساس نوع الكحول، ففضّل أبناء المدينة العرق وأصرّ أبناء الريف على الويسكي. وبالغت بعض العائلات الميسورة في "تحضّرها" المستحدث إلى الحدّ الذي قدّمت فيه الخمر في مناسبات الفرح والأعراس.

في عهد حافظ الأسد لم تكن مسيرة الكحول في اتجاهٍ واحد، إذ شهد عقد السبعينات دخول شرائح دنيا من عمالٍ ومهنيين وبائعين صغارٍ إلى عالم الكحول، حملت معها الصورة النمطية للسكّير الذي يختلق المشكلات آخر الليل. ثم كانت الانعطافة الأهمّ في صعود الإخوان المسلمين ثم سحقهم، إذ شهدت سنوات الصعود انحساراً جزئياً في هذه العادة قبل أن تتوسّع بعد انتصار حافظ الأسد نهائياً على الجماعة التي كان لدعاتها وجيل المتعلمين المتأثرين بها دورٌ في ترسيخ نظرةٍ سلبيةٍ لشاربي الكحول، ما لبثت أن تعزّزت مع الانطلاقة الجديدة والوقحة لرحلة الكحول في دير الزور بانضمام موظفين فاسدين وسماسرةٍ طفيليين ومخبرين وغيرهم إلى تلك الفئة.

في السنوات الأخيرة من حكم حافظ الأسد، والعشر الأولى من حكم ولده بشار، بلغ عدد أماكن تناول الكحول في المدينة 30، بين مطعمٍ وملهى ودكان. وهو رقمٌ ليس كبيراً بالمقارنة بنظيره في الستينات، وأخذاً في الاعتبار تزايد عدد السكان إلى نصف مليون نسمة. يفسَّر هذا الانحسار بموجات التدين بأنماطها المختلفة، و"انشقاق" نسبةٍ لا بأس بها إلى عالم الحشيش وحبوب الهلوسة.

في الأيام الأولى للمظاهرات في المدينة أُحرقت بعض المحلات والأكشاك التي تبيع الكحول، بسبب أن ملكيتها تعود لصفّ ضباطٍ من أفرع الأمن أساساً. ولاحقاً، مع تحوّل الثورة إلى العمل المسلح وسيطرة كتائب الجيش الحرّ على معظم أحياء المدينة، تعرّضت محلات الخمور في هذه الأحياء لهجمات حرق. واستمرّت، في الوقت نفسه، عمليات التسلل إلى بقايا هذه المحلات ومستودعاتها لاستنقاذ ما يصلح للشرب. ولم يتوقف بيع الكحول في المدينة، سواء المهرّب إليها من مناطق سيطرة النظام أو المصنّع بطرقٍ بدائيةٍ فيها، بالتزامن مع دعواتٍ تتصاعد بمنع دخول الكحول، وحتى مشروب الشعير الخالي منه ومشروبات الطاقة. وبعد سيطرة داعش أصبح تهريب الخمور مخاطرةً كبيرةً، وأخذت أسعاره بالارتفاع، لكنه ظلّ متوافراً عبر جلبه من حيّي الجورة والقصور الخاضعين لقوّات النظام. ومع حصار التنظيم الحيّين توقف خروج الخمر من هناك ليصبح مصدره المحافظات الأخرى، كالحسكة وحماة، بأسعارٍ مضاعفةٍ وحساباتٍ دقيقةٍ قد تدفع مهرّبيه إلى تفريغه في قناني المياه المعدنية أو المشروبات الغازية قبل إدخاله إلى المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، حيث يباع "رتل العرق" -كما يسمّيه الكثيرون- بستة آلاف ليرة، فضلاً عن أسعارٍ أعلى لأنواعٍ أخرى تأتي من العراق.

الشرداق مطعمٌ نهريٌّ يقدّم المشروبات الكحولية.