الجمهوريات المصغَّرة: قريةٌ سوريةٌ تبحث عن البقاء وسط المجازر

كريستوف رويتر
دير شبيغل/ 13 كانون الثاني 2016
ترجمة مأمون حلبي عن الإنكليزية

في الوقت الذي تواصل فيه الحرب استعارها يفعل الناس العاديون ما في وسعهم للحفاظ على بقائهم في أماكن مثل قرية كورين. تحوّلت هذه القرية إلى نوعٍ من جمهوريةٍ صغيرة، لكن سكانها يتناقصون تدريجياً.

كانت أشجار المحلب مزهرةً عندما بدأت الكارثة التي كان حصولها منتظراً. وبالفعل، قام رجال كورين والقرى المحيطة بعمل ما عليهم لحصول هذه المحنة. فمنذ الشتاء، وبعد عامين من وجود خطّ جبهةٍ شبه ساكنٍ، اقتحم الرجال بشكلٍ سريعٍ عدداً من مواقع ونقاط الجيش الأخيرة في محافظة إدلب. وبعد وقتٍ قصيرٍ من فرار جنود النظام من إدلب المدينة وصلت القنابل. كثيراً ما شُوهِدَ هذا النموذج في سوريا: بعد أن يستولي المتمرّدون على قاعدةٍ للجيش أو مطارٍ أو مدينةٍ، سرعان ما تصل الطائرات لتقصفهم من الأعلى.

لأسابيع، كانت حوّامات النظام تطير على علوٍّ يتجاوز مدى أسلحة المتمردين وتُلقي براميل متفجّرة، زنة الواحد منها نصف طنّ. لمرّةٍ واحدةٍ على الأقلّ أُلقيت أسطوانةٌ ممتلئةٌ بغاز الكلورين ومُزوّدةٌ بصواعق تفجيرٍ على القرية، التي تقع على بعد حوالي أربعين كيلومتراً جنوب الحدود التركية. ظهرت طائرات السوخوي بين الغيوم وأطلقت صواريخها على المباني التي كانت لا تزال غير متضرّرة. 31 شخصاً ماتوا. لمدّةٍ عاش أهالي القرية في بيوتٍ بسيطةٍ مبنيةٍ بين الأشجار. بدأت الضربات الجوية تتناقص عندما أخذت أشجار الزيتون تُزهر. كان النظام يحتاج إلى الطائرات في مكانٍ آخر، إذ إن هناك قرىً أخرى تستأهل العقاب. أما في كورين فقد عاد القرويون من الكروم، وبعد وقتٍ قصيرٍ كان ثلاثة أرباع السكان، البالغ عددهم 11000 شخص، يعيشون فيها من جديد، ويقومون بجمع الحجارة وتأمين الإسمنت لإصلاح بيوتهم.

في ربيع 2012 احتفل أهالي المنطقة بانسحاب الجيش من معاقله الأخيرة في أريافهم بعد قتالٍ عنيف. اعتقدوا، خطأً، أنّ انهيار دكتاتورية الأسد كان وشيكاً، لكنّ الأمر لم يكن كذلك. عوضاً عن الانهيار، تقلّص النظام فقط. وطوال السنتين التاليتين كان الجيش، من حينٍ إلى آخر، يطلق رشقات المدفعية على كورين من موقعه الذي يبعد قرابة 8 كم. تمّ أخيراً طرد جنود النظام، لكن الموت بدأ بعدها يسقط من السماء لفترة من الزمن. باستثناء ذلك، تُرِكَ السكان وشأنهم في طبيعتهم الخضراء التي تكثُر فيها التلال. لكن "الأمر ليس آمناً تماماً"، يقول عزيز عجيني، الذي كان أستاذاً للغة الإنكليزية في إدلب المدينة. ويتابع: "أصبحت كورين دولة، مثل كلّ البلدات الأخرى هنا". مثل جُزرٍ تحيط بها العواصف، تفعل ما في وسعها لتنجو. السفر من بلدةٍ إلى أخرى مجاورةٍ هو "في الوقت الحاضر مثل عبور حدودٍ دولية"، يضيف عضو مجلس قرية كورين المسؤول عن تأمين إمدادات المياه. "كلّ منطقةٍ فيها مجموعاتٌ مختلفةٌ من المتمرّدين، وبعض البلدات أكثر تديناً من الأخرى، وبلداتٌ أخرى منقسمةٌ بشكلٍ شديد". تطوّر الخوف من الآخرين بشكلٍ أوتوماتيكيّ، الخوف من أولئك الذين لا يعرفهم المرء بشكلٍ جيد. بدأ الناس يقيمون بعيدين عن بعضهم، مُفضّلين البقاء في بيئتهم الصغيرة، لكن الآمنة نوعاً ما.

التضامن القرويّ

الهدوء مذهل، إن أخذنا في الاعتبار حقيقة أنه من السهل للناس أن يتسلّحوا. إنه أسهل من أيّ وقتٍ قتل أحدٍ ما إن أراد المرء ذلك، وأصبح من المستحيل فعلياً اعتبار المجرمين مسؤولين عن جرائمهم دون المخاطرة بشقاقٍ يؤدي إلى سفك الدماء. لا وجود لرجال الشرطة، وإن وجدوا، لم يعد ممكناً اللجوء إليهم. هذا لا يعني أنّ نظاماً قضائياً جديراً بالثقة كان موجوداً في ظلّ حكم الأسد، لكن كانت توجد دولة. في الوقت الحاضر، هناك مجرّد توازنٍ هشِّ يمكن أن يُعبَثَ به في أيّ وقت. كلّ شيءٍ يجب أن يتمّ التفاوض حوله. السلطات السابقة حلّت محلها العلاقات الشخصية والتضامن القرويّ.

عندما عُثر على شابٍّ تمّ ضربه حتى الموت قرب كورين في أيار 2014، بدأ مجلس القرية، المُكوّن من 10 أشخاص، التحقيق بقدر ما استطاع. كان أحد الشهود قد رأى المغدور في شجارٍ مع اثنين من أبناء عمومته البعيدين. اعترف الاثنان، لكن ذلك كان بداية المشاكل. كيف يمكن تجنّب شقاقٍ دمويّ؟ يقول الأستاذ عزيز: "أحلنا القضية إلى المحكمة الشرعية في مدينة بنّش. لهذه المحكمة سمعةٌ حسنةٌ في كلّ أنحاء المحافظة، وهي لا تُطبّق الفقه المتشدّد الذي كثيراً ما يتمّ ربطه بالشريعة، لكن التسمية تزيد من قبول الناس لأحكامها". كانت القضية صعبة. الحكم بالسجن لم يكن ممكناً لأنه لا سجون هناك، والحكم بالإعدام كان يمكن أن يُمزّق القرية. لهذا فاوضت المحكمة على تسويةٍ تتضمن دفع مبلغ 7 مليون ليرةٍ سوريةٍ كديّةِ دم. يُشكّل هذا المبلغ ثروة، وكان على عائلة الجُناة أن تبيع ذهباً وأراضٍ لتستطيع دفعه. إضافة إلى ذلك، مُنعَ الجانيان من دخول القرية لمدّة عام.

تحافظ القرية على بقائها، بشكلٍ حصريٍّ تقريباً، من المواد الغذائية التي تزرعها؛ الزيتون والتين والمحلب أساساً. تزرع القرى الأخرى الأوفر مياهاً الدرّاق والبطيخ والبطاطا والفليفلة. كان الحصاد في كورين جيداً هذا العام، حسب ما يقول المزارعون. وهم مرّةً أخرى يشعرون أنهم آمنون بما يكفي للذهاب إلى كروم الزيتون والمحلب الأبعد، التي زرع الجيش فيها ألغاماً فيما مضى، ودفع عددٌ من المزارعين حياتهم ثمناً لذلك.

Wi Fi في ساحة القرية

يصل المازوت، الذي يُستعمل للسيارات والمولدات على حدٍّ سواء، إلى القرية عن طريق السماسرة. كلّ مساءٍ تغرق كورين في ضوءٍ أبيض شاحب. فكلّ شخصٍ هنا تقريباً يستخدم الإنارة عن طريق "اللدّات"، التي تُربَط بالمولدات الكهربائية أو بالبطاريات. أحد اختصاصيّي الإنترنت عاد إلى قريته كورين وأقام عدّة نقاطٍ يمكن الوصول إلى الإنترنت فيها. منذ عام 2013 يوجد Wi Fi في الساحة الرئيسية. عندما كان محمد، اختصاصيّ الإنترنت، يُركّب كابلات إحدى النقاط قال: "على الأقل لم يكن عليّ أن أحفر أيّ ثقوب. ببساطة، استعملت ثقوب الطلقات التي خلّفها هجوم الجيش الأخير. بالطبع، مُتشدّدو القرية القلائل ما زالوا يتذمّرون قائلين إن كل أنواع الآثام يأتي بها الإنترنت، لكنهم يستخدمونه أيضاً. لا أحد من كورين يقاتل مع جبهة النصرة. مع ذلك، حوالي 10 أشخاصٍ من البلدة انضمّوا إلى تنظيم الدولة الإسلامية وذهبوا إلى الرقة.

دورةٌ خطرة

تميل الرؤية الغربية للحرب في سوريا إلى أن لا تنظر إلى ما وراء نظام الأسد وتنظيم الدولة الإسلامية الوحشيّ والبارع دعائياً. سيطر التنظيم على أراضٍ واسعةٍ في السهوب الصحراوية شرقيّ سوريا لكنه لم يحقّق تقدماً كبيراً في إدلب وحلب في الشمال، وحماة في الوسط، ودرعا في الجنوب. بالنسبة إلى الناس الذين يعيشون هناك، تنظيم الدولة مخيفٌ بالقدر نفسه الذي هو مخيفٌ للغربيين. وبعيداً عن تنظيم الدولة، تتلقى الجماعات الدينية دعماً من الناس في كثيرٍ من القرى في محافظة إدلب. أسباب هذا الدعم متعدّدة، وغالباً ما تكون أسباباً دنيوية: فكثيراً ما تكون للأمر علاقة بالرغبة في تقوية المعايير الأخلاقية في ظلّ غياب مؤسّساتٍ تؤدي هذه الوظيفة، أو تكون له علاقةٌ بتقديم السلوى في وجه العنف الحاصل. لكن للأمر علاقةً أيضاً بالسلطة والمال.

في الوقت الذي كان فيه الناس، من واشنطن إلى موسكو، يُحذرون من التشدّد، كان يتمّ تجاهل خيارٍ أساسيٍّ صعبٍ يواجه المعارضة. الجمهوريات القرى مثل كورين تجسّد وعد الثورة وحدود هذه الثورة. فالروح الإبداعية وروح العزم والتصميم لهذه الدول الصغيرة مذهلة. وبالرغم من العوائق التي تعترضهم، يعملون على مستوىً محليّ؛ فقط على مستوىً محليّ. ما يحدث في سوريا هو ثورةٌ للناس المحليين، وهم ينتقدون بغضبٍ –ومعهم الحقّ في ذلك– عدم كفاءة المعارضة في المنفى، لكنهم لا يستطيعون أن يحلّوا محلها. إنهم واعون للمصالح المتضاربة حتى بين داعميهم، لكنهم لا يتّحدون. يريدون للأسد أن يسقط ويريدون دولةً وسطيةً وعادلةً تؤدّي وظائفها، لكن لا أحد يعرف من الذي عليه أن ينجز هذه الأهداف.