التنقيب في النفايات:
مهنةٌ أم ظاهرةٌ مسيئةٌ يجب علاجها؟

إدلب ـ خاص عين المدينة

ضاقت بهم السبل وقلّت الخيارات، أطفالاً أكانوا أم بالغين، ولم يجدوا مهنةً يعيشون منها، ليصبح التنقيب في النفايات مصدر رزقٍ يدرّ عليهم دخلاً يسدّ قوت يومهم.

مشاهد مؤلمةٌ أصبحت جزءاً من حياتنا المعتادة... نراهم يومياً يتجوّلون في شوارع المدن السورية، وبخاصّةٍ المحرّرة منها. ففي إدلب وأريافها تشاهد العشرات من أبنائها يجوبون شوارعها يحملون أكياساً على ظهورهم يجمعون فيها ما يمكن أن يباع (قطع حديد، قطع نحاس، زجاج، بلاستيك مكسور، بطاريات، خبز يابس....).

يتيح لك التجوّل في شوارع مدينة إدلب باكراً رؤية مشاهد قد يصعب على الكثيرين رؤيتها؛ ستشاهد طفلاً داخل الحاوية يبحث عما يضيفه إلى كيسه، أو معاقاً يفتح الأكياس الملقاة إلى جانب الحاوية الكبيرة التي لا يستطيع الوصول إلى ما في داخلها، وتشاهد ثالثاً على دراجةٍ ناريةٍ يضع عليها أكياساً كبيرةً معبأةً بما قد جمعه مما ألقاه الناس. مهنةٌ بات يمارسها الكثيرون في ظلّ الظروف الاقتصادية الصعبة، فهي لا تحتاج إلى رأس مال، ولا تكلف أكثر من بضعة أكياسٍ على عربةٍ يجرّها حمارٌ أو على دراجةٍ هوائية. والكثير منهم ليست لديه الوسيلتان، فيضطرّ إلى جرّ عربته بنفسه أو حمل أكياسه على ظهره، متنقلاً من حاويةٍ إلى أخرى.

أبو أحمد (51 عاماً) من سكان إدلب، تسبّب القصف الذي طال المدينة في إصابةٍ بقدمه جعلته لا يستطيع أن يمارس الأعمال المجهدة، قال لنا: «أجمع المعادن، وخاصّةً النحاس الموجود في قطع كابلات الكهرباء لغلاء ثمنه، وكذلك النايلون، وعلب العصير المصنوعة من الألمنيوم لإعادة تصنيعها مرّةً أخرى. اضطرّرت إلى هذا العمل لتأمين دخلٍ لأسرتي ولو قليل، بس بتّمّ البشكرة (الرمد) أفضل من العمى».

والملاحظ أن الأطفال هم الفئة الأكثر ممارسةً لمهنة التنقيب في النفايات؛ فأغلبهم ترك مقاعد الدراسة بعد أن دمرت الحرب المدارس وهجّرت الناس واضطرّ الأهالي إلى الاعتماد على عمل أطفالهم لمواجهة الغلاء الكبير الناتج عن تراجع العملة. حدثنا خالد، ابن الـ14 عاماً، وهو نازحٌ من ريف حماة: «بحثت كثيراً عن عملٍ ولكنني لم أجد من يقبل بتشغيلي لأني لا أتقن صنعة. تركت المدرسة منذ سنتين بعد أن هربنا من قريتي إلى جبل الزاوية، وبعدها انتقلنا إلى مدينة إدلب، فاضطررت إلى أن أعمل في جمع النفايات، أحسن من الشحاذة وطلب المال من المارّة. أبي عتالٌ وهو لا يعمل دائماً».

أما أبو علي، من ريف إدلب الجنوبيّ، فهو يعمل في تجارة المواد التي يجمعها المنقبون، وقد حدثنا قائلاً: «قبل الثورة كانت هذه المهنة مربحةً أكثر بكثير، فالأشياء التي يستغني عنها الناس كانت كثيرة. أما الآن فأغلب الناس تعتمد على المستعمل وتمشّي أمورها. نشتري كيلو البلاستيك بحسب نوعه، فيتراوح سعره بين 30 و80 ليرة سورية، والحديد بين 5 و40 ليرة، اما النحاس فهو نوعان؛ الأحمر الذي يصل سعر الكيلو منه إلى 2000 ليرة، والأصفر وهو أرخص قليلاً».

ينقسم المجتمع بين مؤيدٍ لهذا العمل وآخرين يدعون إلى إيجاد حلولٍ لهذه الظاهرة والقضاء عليها. فالبعض يجدها مهنةً مربحةً وأفضل من التسول، بالإضافة إلى أنها تسهم في فرز النفايات وإعادة تدويرها في ظلّ غيابٍ كاملٍ للمؤسّسات التي تعمل على الاستفادة منها. ويقول آخرون إن هذا العمل يخفف من كمية القمامة المتراكمة في الشوارع. أما البعض فيجدها ظاهرةً مزعجةً لأن هؤلاء المنقبين يفتحون الأكياس وينثرون ما تحويه خارج الحاوية، مما يصعّب مهمة عمال البلدية، ويؤدي إلى انتشار الروائح الكريهة والحشرات في الحارات، بالإضافة إلى الأخطار الصحية التي يتعرّض لها هؤلاء الفتية من أمراضٍ وإصاباتٍ أو جروحٍ ناتجةٍ عن الإهمال الكبير وعدم اتباع وسائل وقاية، مما يسهم في ظهور أمراضٍ أو إصاباتٍ قد تكون خطيرةً جداً عليهم وعلى أسرهم.

أبو أحمد وخالد مثالان عن واقع مئات السوريين، والحياة التي يعانونها نموذجٌ لحياة الآلاف الذين ينتظرون الحلول أو المبادرات من المنظمات التي تعمل بشكلٍ عشوائيٍّ دون أهدافٍ واضحةٍ أو اهتمامٍ بهذه الشريحة من الناس التي يزداد عددها مع الوقت، فقد أصبح مألوفاً أن نشاهد الأطفال وهم ينبشون النفايات دون أن يرفّ لنا جفن. فهل ستعمل المؤسّسات والجمعيات على احتواء هؤلاء وعائلاتهم التي تعيش أصعب الظروف؟