البنية الإدارية لداعش... قراءة أولى في حالة "ولاية الخير"

تعدّ تجربة "الدولة الإسلامية" داعش في ولاية الخير/ محافظة دير الزور نموذجاً معبّراً عن مدى قدرة التنظيم أو عجزه عن بناء مؤسّسات. وبكثيرٍ من الصبر والحذر والدقة في بحث معطيات هذه التجربة، يمكن تلمس البنية المدنية لداعش ورسم هيكلها العامّ رسماً لن يكون نهائياً، بل يتوقف على رؤى أو أمزجة صناع هذه الدولة ووفق ما تتيحه لهم مجريات الصراع.

إضافةً إلى إطلاق اسم ولاية الخير على محافظة دير الزور، أحدث التنظيم تغييراتٍ هامةً في الخريطة الإدارية لها، فاقتطعت أجزاءٌ من الريف الشرقيّ وأُلحقت بما يسمّى "ولاية الفرات" العراقية السورية. وفي الريف الغربيّ، على ضفتيّ الفرات الشمالية والجنوبية، حدث بين ولايتي الخير والرقة ما يشبه تبادل الأراضي، فذهبت أجزاءٌ من دير الزور إلى الرقة في ضفة الفرات الشمالية وحدث العكس على الضفة المقابلة. وقسّمت ولاية الخير إلى أجزاء أربعةٍ أطلق على كلٍّ منها اسم "قاطع"، لتتألف الولاية بذلك من أربعة قواطع هي الشماليّ والجنوبيّ والشرقيّ والغربيّ.

البنى والوحدات الإدارية:

بحسب تجربة "الدولة الإسلامية" خلال مدّة سيطرتها على دير الزور ظهرت البنى والأجهزة التالية:

الوالي:

هو السلطة الأعلى في الولاية، وتتبع له جميع أجهزتها ومؤسّساتها ومكاتبها المدنية والعسكرية، ويتمتع بصلاحياتٍ شبه مطلقةٍ على رؤساء وأمراء الأجهزة المختلفة في الولاية، لا تقيدها سوى السلطة الدينية التي يمثلها الأمير الشرعيّ الذي يستطيع إبطال أيّ قرارٍ من قرارات الوالي يجد فيه مخالفةً للشريعة الإسلامية. وإضافةً إلى الأمير الشرعيّ، يمكن لأميرين آخرين هما الأمير العسكريّ وأمير الأمنيين، أي رئيسيّ الجهازين العسكريّ والأمنيّ في الولاية، أن يتمتعا باستقلاليةٍ نسبيةٍ أو نفوذٍ خاصٍّ تتيحه لهما الارتباطات بسلطاتٍ ومراتب أعلى من مرتبة الوالي، بحكم الطبيعة الخاصّة لجهازيهما.

وإلى جانب المهمات التنفيذية الرفيعة التي يتمتع بها، يضطلع الوالي بوظائف ماليةٍ مباشرةٍ تجعل منه خازناً لبيت مال المسلمين وآمراً أعلى لصرفياته في نفقات الأجهزة المختلفة، وكذلك في القضايا المنفردة والخاصّة[1]. تضاف إلى ذلك مهماته العسكرية المتمثلة في الإشراف على قوّات الولاية وما يرتبط بذلك من شؤونٍ متفاوتة الأهمية والنوع.

تتفرّع عن مكتب الوالي أذرعٌ في القواطع والمدن، يطلق على رئيس كلٍّ منها لقب أميرٍ في حالة المدن الكبيرة والمتوسطة، أو إداريٍّ في البلدات والقرى. ويلعب كلٌّ من الأمراء أو الإداريين أدواراً رقابيةً على الأجهزة العاملة في حيّزه الجغرافيّ لصالح مكتب الوالي، إضافةً إلى قيام الإداريّ بالتدخل لحلّ بعض المشكلات المحلية أو نقلها إلى مكتب الوالي إن عجز عن الحلّ. وتتبع لمكتب الوالي كلٌّ من مكاتب العلاقات العامة والإعلام والانتساب.

- المكتب الإعلاميّ: ولهذا المكتب وظيفةٌ مزدوجةٌ إعلاميةٌ (إخباريةٌ) ودعائيةٌ (ترويجيةٌ) لأنشطة وأعمال أجهزة "الدولة" الأخرى المدنية والعسكرية. ويقوم هذا المكتب بطباعة منشورٍ إخباريٍّ يوميٍّ تحت اسم "أخبار اليوم"، يوزّعه في نقاطه الإعلامية الثابتة أو الجوّالة في مدن وبلدات الولاية الرئيسية. وإضافةً إلى ذلك، توزّع النقاط الإعلامية منشورات التنظيم وإصداراته المختلفة، المركزية منها أو المحلية (على مستوى الولاية). ويشرف المكتب أيضاً على الحسابات الإلكترونية الرسمية على شبكة الإنترنت.

- مكتب العلاقات العامة: يختصّ هذا المكتب بتوثيق صلات التنظيم مع القوى والتركيبات العشائرية، من خلال القيام بزياراتٍ ودّيةٍ لقادة أو شيوخ هذه التشكيلات. كما ينشط المكتب في حلّ المشكلات ذات الصبغة العشائرية، وخاصّةً مشكلات الثأر والخلافات الاجتماعية العميقة بين المجموعات المختلفة[2].

- مكتب الانتساب والموارد البشرية: يستقبل الراغبين في الانتساب إلى صفوف التنظيم. ويشابه في وظيفته مكاتب التعبئة والتوظيف والتجنيد والسجلات العسكرية في آنٍ واحد، إذ إنه يعمل في الشقين المدنيّ والعسكريّ، وفي تحديد أعداد وأسماء المشاركين في الدورات التأهيلية الشرعية منها والعسكرية. ولهذا المكتب أهميةٌ كبرى لاحتوائه على قوائم أسماء المنتمين إلى التنظيم من مدنيين وعسكريين.

الإدارات:

إن المقارنة الدائمة بين أجهزة داعش المدنية -على مستوى الولاية فما دون- والأجهزة الحكومية السابقة -على مستوى المحافظة فما دون- تبدو ضئيلة النفع للبحث في الهيكلية الإدارية "للدولة الإسلامية"، إذ تفرض الهويتان الدينية والعسكرية لهذه "الدولة" آثارها في كلّ جسمٍ صغيرٍ أو كبيرٍ من أجسامها. كما تخفض عمليات الفصل والضمّ، شبه الدائمة، بين فروع الأجسام المختلفة، وكذلك تغيّر عدد الوظائف، زيادةً أو نقصاناً لكلّ فرعٍ أو لجسمه الأعلى[3]، من درجة الثقة بالأسماء التي أطلقتها وتطلقها داعش على تلك الأجسام/ الأجهزة أو تفرّعاتها. مع الإشارة إلى التغيّرات غير المبرّرة لهذه الأسماء بين ورقةٍ "رسميةٍ" وأخرى تصدر عن الجهاز ذاته[4]. ونتيجةً لهذا، ولغياب بياناتٍ صادرةٍ عن التنظيم تشرح هذه الهيكلية وتحدّد بدقةٍ ووضوحٍ اسم كلّ جهازٍ ووظيفته، ولجهل معظم منتسبي التنظيم بهذه الهيكلية؛ سنضطرّ إلى إهمال العناوين والتسميات التي تطلقها داعش على أجهزتها –مبدئياً على الأقلّ- واستخدام المضامين المعبّرة عن عمل وطبيعة كلٍّ من هذه الإدارات والأجهزة المختلفة.

ويمكن بذلك تقسيم الإدارات إلى ما يلي:

أولاً) الإدارة الشرعية:

يرئسها أمير الشرعيين[5]. وتتألف من الجهازين القضائيّ والشرعيّ، إضافةً إلى مئات الشرعيين الموزّعين على الأجهزة الأخرى، والذين يقومون بوظائف تشابه إلى حدٍّ كبيرٍ وظائف المندوبين الحزبيين في أجهزة الدول الشمولية المحكومة من حزبٍ واحد. وتعدّ الأجهزة التابعة والمشتقة من هذه الإدارة خالصة البنية من ناحية تشكلها وانتمائها إلى "الدولة الإسلامية"، إذ يتألف كادرها البشريّ من المبايعين للتنظيم فقط.

- الجهاز القضائيّ: يقوم هذا الجسم، المتمثل في المحكمة الإسلامية، بالفصل في النزاعات المختلفة بين مختلف الأطراف –من عناصر التنظيم أو من عامة الناس- إلا في بعض الحالات التي تعجز المحكمة عن البتّ فيها، مثل بعض القضايا المرفوعة ضدّ قادةٍ كبار في داعش[6]، فتحال إلى محاكم مدينة الموصل. فيما ترفض المحكمة الإسلامية البتّ في قضايا أخرى ذاتّ طبيعةٍ ماليةٍ –ولا سيما القضايا التي تطالَب فيها "الدولة" بدفع أموال- وتحوّلها إلى مكتب الوالي. يعمل في المحكمة مجموعةٌ من القضاة، يختصّ كلٌّ منهم بنوعٍ محدّدٍ من القضايا، وتتبع لها فروعٌ عدّةٌ في المدن الكبيرة للنظر في القضايا الأقلّ أهمية.

- الشرطة الإسلامية: وهي الذراع التنفيذية للمحكمة الإسلامية، وتعمل تحت سلطتها. فهي مسؤولةٌ عن جلب المتهمين وتقديمهم إلى هذه المحكمة، إضافةً إلى المهامّ الروتينية في تطبيق النظام العام وتقديم المؤازرة لأجهزة داعش المختلفة إن لزم الأمر.

- الجسم الدعويّ: ويختصّ بنشر وترويج المبادئ والعلوم الإسلامية –وفق رؤية داعش- بأساليب مختلفةٍ، كالدورات الشرعية الدورية التي تقام في المساجد، والأنشطة الميدانية التي تجرى على شكل احتفالاتٍ ومحاضراتٍ تقام في الساحات والشوارع، والزيارات الدعوية لشرعيين نوعيين إلى القرى والبلدات الصغيرة. كما يشرف الجهاز الدعويّ على شؤون المساجد وتعيين الخطباء والأئمة والمؤذنين فيها. وأُلحق جهاز الحسبة (ديوان الحسبة)، ذو الوظيفة الإرشادية والشرطية في آنٍ واحدٍ (تتراوح مهامّ الحسبة بين النصح وبين إلقاء القبض على المخالفين) بالجسم الدعويّ الذي أخذ تسمياتٍ مختلفةً آخرها ديوان "الدعوة والأوقاف والمساجد".

ثانياً) ديوان خدمات المسلمين:

يعمل هذا الجهاز في قطاعاتٍ مختلفةٍ هي الكهرباء، ومياه الشرب، والهاتف، والمطاحن والمخابز، والأشغال البلدية، والنقل. ويعدّ من أوضح أجهزة داعش من ناحية الاختصاص. وليس خالص البنية للتنظيم في كادره البشريّ، إذ يشكّل الموظفون الحكوميون السابقون النسبة الأكبر من عدد العاملين فيه. كما يعمل فيه أيضاً نوعان من العمال أولهما المتعاقدون مع التنظيم من خارج البنية الحكومية السابقة، سواءً أكانوا من العمال المهرة أم العاديين، وبحسب الحاجة إليهم. والنوع الثاني هم المبايعون، ومنهم يعيّن رئيس أو أمير كلّ وحدةٍ أو فرعٍ أو مكتبٍ من مكاتب الديوان، يضاف إليهم الشرعيون والأمنيون المداومون تحت صفاتٍ وظيفيةٍ شكليةٍ في غالب الأحوال. ويقدّم هذا الديوان خدماتٍ مختلفةً لأجهزة داعش المدنية الأخرى، وخاصّةً منها ما هو قيد التأسيس.

ثالثاً) ديوان الزراعة:

لم تكتمل إلا أجزاءٌ صغيرةٌ ومركزيةٌ من هذا الجهاز، إذ لم تؤسّس بعدُ الجمعياتُ الفلاحية التي ستشكّل –في حال قيامها- الأذرع الميدانية لهذا الديوان في المناطق الريفية. فيما تقوم مكاتب خدمات المسلمين بالوظائف المفترضة لهذه الجمعيات حالياً، مثل تنظيم عمليات الريّ وإعداد قوائم بالفلاحين ومساحات الأراضي التي يزرعها كلٌّ منهم. وتجب الإشارة هنا إلى الدور الكبير لموظفي مشاريع الريّ الحكومية السابقة في العملية الزراعية في محافظة دير الزور/ ولاية الخير، الذين واصلوا عملهم رغم قطع مديرية "مشروع حوض الفرات الأدنى" التابعة للنظام رواتبهم، وقبل أن تستغني داعش عن خدمات بعضهم وتتكفل بدفع مكافآتٍ غير منتظمةٍ للبعض الآخر. ومن جانبٍ آخر نظّم هذا الديوان الزراعة البعلية في منطقتي "الشامية" –بادية الشام- و"الجزيرة" –شرق وغرب حوض الخابور- بعد أن رفض مزاعم مجموعاتٍ عشائريةٍ بتملك مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي غير المروّية شمال وجنوب حوض الفرات، معتبراً سائر هذه الأراضي ملكيةً عامةً "للدولة الاسلامية" تقوم هي بعرض مناطق معينةٍ منها للإيجار السنويّ لمن يرغب في زراعتها.

رابعاً) ديوان الصحة:

هذا الجهاز قيد التأسيس أيضاً. ويتألف نظرياً -كما هي حال معظم الدواوين- من مكتبٍ رئيسيٍّ في المركز تتبع له مكاتب فرعيةٌ في قواطع الولاية الأربعة، تشرف بدورها على المؤسّسات الصحية في كلّ قاطع. وتجدر الإشارة هنا إلى الأهمية الكبرى لعمل المؤسّسات الصحية التي أنشأها النشطاء الطبيون الثوريون قبل سيطرة داعش على المحافظة، واستمرّ معظمها في العمل، وهي تقوم الآن بالدور الرئيسيّ في تقديم الرعاية الصحية للسكان، مع التنويه بدور القطاع الخاصّ (العيادات والمشافي والصيدليات) في هذا الجانب. ويمكن القول إن فعالية داعش في الحقل الصحيّ تقتصر فقط على القرارات السلبية –والمدمّرة أحياناً- التي يصدرها التنظيم بين حينٍ وآخر، وكذلك في تعيين مبايعين له في كلّ مشفىً أو مؤسّسةٍ، لا أدوار طبيةً حقيقيةً لهم، بل ينحصر عملهم على النواحي الشرعية والإدارية والأمنية في حالاتٍ كثيرة. وباستثناء طبيبٍ واحدٍ في كلّ المحافظة، فشل التنظيم في إقناع الأطباء بالانضمام إليه.

خامساً) ديوان التعليم:

ألغت داعش المنظومة التعليمية السابقة. وتعمل اليوم على تأسيس منظومتها الخاصّة، مبتدئةً بفرض ما تسمّيه الاستتابة على جميع العاملين السابقين في القطاع التربويّ، ثم إخضاع من يرغب في العمل في مدارسها القليلة المفتتحة لدوراتٍ شرعيةٍ تأهيلية. ووفق نظامها الجديد، قلّصت داعش المراحل التعليمية إلى المرحلتين الابتدائية والإعدادية، لتلغي بذلك سنوات التعليم الثانوي الثلاث. كما أصدرت منهاجاً تعليمياً جديداً حذف عدداً من الموادّ الدرسية المعروفة. ولم تنجح داعش حتى الآن إلا في افتتاح عددٍ قليلٍ من المدارس –10 فقط- مما يدلّ على عجزها المستقبليّ عن بناء منظومةٍ تعليميةٍ توفر المستوى الأدنى من التعليم لكامل أجزاء الولاية. ويعدّ هذا الجهاز، بشكله الحاليّ أو المستقبليّ، جهازاً خالص البنية لداعش.

سادساً) ديوان العقارات:

ويختصّ بشؤون البيع والشراء وتسجيل الملكيات العقارية، بالتقاطع مع ما يلزم في الأجهزة الشرعية.

سابعاً) ديوان الزكاة:

ويختصّ بتحديد وتحصيل نسب الزكاة المفروضة على مالكي الثروات بأنواعها المختلفة.

ملاحظاتٌ عامة:

1- قد تكون التسميات والمصطلحات المستعملة في كتابة هذا التقرير مضللةً بعض الشيء، نظراً لاختلاف الوقائع المضطربة والمرتجلة عن الانطباعات العقلانية التي قد تتركها هذه التعابير. إلا أن عملاً شاقاً مثل محاولة رسم الوجه المدنيّ لكيان داعش يوجب هذه الاستعمالات.

2- رغم التشكيلات الاسمية لأجهزة داعش، يلحظ تنازع اختصاصٍ وتضارب صلاحياتٍ بين مسؤولي هذه الأجهزة، إضافةً إلى تدخل كلٍّ من العسكريين والأمنيين والشرعيين في عمل الأجهزة المختلفة.

3- لا توجد قوانين أو أنظمة أو لوائح إدارية تضبط العمل في أجهزة داعش.

4- تفرض الطبيعة العسكرية لدولة داعش على جميع المبايعين المدنيين لها أن يكونوا على استعدادٍ دائمٍ لترك أعمالهم والتوجه إلى جبهات القتال، بحسب ما تقتضيه الحاجة والظروف.

5- لم تنشأ حتى الآن أية أجهزةٍ خاصّةٍ بتنظيم العمل في قطاعاتٍ حيويةٍ هامةٍ مثل التجارة والصناعة.

6- استثنيت الأجهزة العسكرية والأمنية، وكذلك الجهاز الخاصّ بالنفط، من العرض في هذا التقرير.


___________________________________________________________________________


 

[1] - مثل قضايا التعويضات المالية لمن تضرّرت ممتلكاتهم في معارك التنظيم أثناء سيطرته على المحافظة.

[2] - رغم نجاحه الظاهر في تسوية بعض النزاعات العشائرية في المحافظة، إلا أن قضايا الثأر يمكن أن تتجدّد في أيّ وقت.

[3] - يلحظ هذا في عمل الحسبة والشرطة الإسلامية.

[4] - من بيانٍ أو ورقةٍ رسميةٍ إلى أخرى يتغير اسم الجهاز الدعويّ بين "المكتب الدعوي" وديوان "الدعوة والأوقاف والمساجد". وكذلك الحال في الجهاز القضائيّ بين "ديوان القضاء والمظالم" و"المحكمة الإسلامية".

[5] - يجب أن يكون أمير الشرعيين حائزاً على قدرٍ كبيرٍ من العلوم الدينية.

[6] - مثل القضايا المرفوعة على الأمير العسكريّ أو على الأمنيين.