أيام اللجوء الألمانيّ الأولى

لاجئة سورية في ألمانيا

سارة ريحاني

وأخيراً وصلنا إلى ألمانيا، بعد رحلةٍ مثيرةٍ تشبه المغامرات، ولكنها أقل تشويقاً مما يمرّ به غيرنا من السوريين.

لم نكن نتخيل، نحن الأسرة التي عاشت طوال عمرها في دمشق، أن نترك سوريا في يومٍ من الأيام. أنا، طالبة الطبّ التي كانت تحلم بعيادة أطفالٍ صغيرة، أقف في صفٍّ طويلٍ مع أمي وأبي وإخوتي الثلاثة، ننتظر دورنا لنقدّم أوراق اللجوء في مدينة kalsruhe الألمانية. وصلنا في الصباح الباكر، واستقبلنا عند الباب موظفٌ ألمانيٌّ لا يتحدث الإنكليزية. أعطاني ورقةً لأسجل عليها أسماءنا وجنسيتنا وديانتنا واللغة الأجنبية التي نجيدها. وبعد أن ملأنا الورقة دخلنا إلى "الهايم"، أي المخيم بالألمانية.
قام موظفٌ من أصولٍ أفريقيةٍ بمرافقتنا إلى غرفةٍ مؤقتةٍ نقضي فيها ليلتنا، ريثما نباشر الإجراءات الأخرى في اليوم التالي. تقع الغرفة فيما يسمّى جناح العازبين. وحالما فتح بابها زكمت رائحة النشادر النفاذة أنوفنا، كانت تنبعث من كلّ ركنٍ من الغرفة. ولكن محمود، وهو شابٌّ سوريٌّ كرديٌّ من الجزيرة، طمأننا إلى أن هذه الغرفة مؤقتة، وأنه سيتم نقلنا غداً إلى جناح العائلات.
مضت الليـــــــــلة ببطء، تقطع سكونها صرخــــــات نساءٍ متذمرات.. في منتصف الليل جاءنا الموظف بزوجين ألبانيين، ليصبح عددنا ثمانية في غرفةٍ واحدة.
في السادسة صباحاً، وقبل شروق الشمس، وقف أبي أمام المبنى الإداريّ لأخذ موعدٍ لتقديم أوراقنا والمباشرة بمعاملة اللجوء. كان الحماس يملؤنا، لا لشيء، وإنما هرباً من الغرفة القذرة.
وقفنا في صفٍّ طويل. كان الموظفــــون الألمان لطــــــفاء ومتعاونين، على الرغم من الضغط الشديد والعدد الهائل. بعد أن التقطوا لنا صوراً شخصيةً ذهبنا إلى غرفةٍ فيها موظفةٌ عراقية الأصل، شرحت لنا ما علينا فعله. أثناء انتظارنا في صالة أخذ البصمات شاهدنا عائلةً سوريةً من حلب تهيئ نفسها لما يسمّى بمحكمة الطريق، فكانوا يتفقون على روايةٍ معينةٍ لوصولهم إلى ألمانيا...
"كنا ناويين نروح عالسويد بس انمسكنا هون".. انتبه الأب إلى أنني كنت أصغي إلى حديثه فسألني:
- أنتو عرب؟
- إي.. سوريين.
عاد ليلقن أهله القصّة من جديد: "شو كان اسم المهرب بابا؟ قول اسمه أبو إسكـــندر". جلست بجانبهــــــم عائلةٌ بوسنيةٌ وسألـــــتهم بالإنكلــــــيزية عن حــال ســـــوريا، فردّت الأم بتهــــكم:
syria is very good.
بعد أن أنهينا إجراءات اليوم الأول قاموا بتسليمنا مفتاح غرفةٍ فيما يسمّى جناح العائلات، وكانت أفضل حالاً من سابقتها. حشرنا أنفسنا في الأسرّة الطابقية الموجودة، وقد ارتفعت معنوياتنا بعد أن أصبح وجودنا في ألمانيا شرعياً، وصرنا محميّين بموجب القانون.
كان نزلاء الهايم من جنسياتٍ متعددة، وكأن كلّ البشرية جاءت لتقدّم طلب لجوءٍ إلى ألمانيا! كان العدد كبيراً، مما صعّب الحفاظ على نظافة المكان وتحسين ظروف المعيشة. ولكن ما كان يعزّي الجميع هو أن وجودهم في هذا المكان مؤقت، فتجدهم كمن ينتظر في محطة القطار موعد فرزه والوجهة التي سينقل إليها.
مذ وصلنا إلى ألمانيا فقد أبي مركزه القياديّ في الأسرة، بسبب جهله التامّ باللغة الإنكليزية، مما ألقى على كاهلي عبئاً إضافياً، إذ أصبحت لديّ مهمةٌ جديدةٌ هي الترجمة، وقد استطعت بما أعرفه من الإنكليزية أن أتفاهم مع الموظفين.
لمَ ألمانيا؟؟ لا نعرف الكثير عن هذه البلاد، إلا ما نسمعه عن التأمين الصحيّ الشامل والإعانة الشهرية التي تبلغ 140 يورو لكلّ شخصٍ كمصروف جيب، أما الطعام والشراب فهو مدفوع الثمن عن طريق البطاقات. ولكن الأهم من ذلك أن ألمانيا تمنح اللاجئ حقوقه الكاملة، إذ أخذت على عاتقها تعليم اللغة الألمانية للاجئين، مما يتيح لهم فرص العمل أو الدراسة.
جمال الطبيعة في هذا المكان، وأسلوب تعامل الألمان الراقي مع اللاجئين، جعلانا نتفاءل بغدٍ أفضل، ولكنه تفاؤلٌ حذر، فما زال وضعنا مجهولاً ولا ندري ما سيكون عليه الحال. أتمنى أن تنتهي الحرب المجنونة في وطني وأن ينتصر الحقّ ويسقط الطاغية، لتتســـــنى لنا العودة وتدارك ما فاتنا، فمنذ خرجنا من سوريا توقفت حياتنا وأصبحت معلقةً بحقيبة سفر..