أنا السنّة العليا.. وهو النصيرية المنحطة

قبل المجازر بوقتٍ ليس بالقصير امتلأ قلبي بشعور البغض والحقد على ذلك العنصر في الأمن العسكريّ الذي أهانني وسبّني ومسّ شرفي بشتائمه وهو يقتادني إلى الزنزانة الانفرادية.

ومن هنا فإن من الطبيعيّ والمفهوم أن يتملّك الإنسان الطبيعيّ شعور الحقد على جرائم لا مثيل لها في وحشيتها ترتكبها قوات النظام المجرم والميليشيات الطائفية بحق أهلنا.

ولا غرابة إذا طالب المعتدى عليهم بالثأر والانتقام.

هذا كله مفهوم.

المشكلة ليست هنا.

المشكلة أن الكثيرين ينطلقون في رغبتهم في الثأر من جذرٍ طائفيّ، بمعنى أن عداءهم للطائفة العلوية سابقٌ على جرائم الكثير من أبنائها، هو عداءٌ محرّضه الاختلاف العقديّ، وتزيده جرائم أبناء الطائفة اتّقاداً.

إن الجذر الأعمق كامنٌ في تصنيف الأفراد بحسب انتمائهم إلى الجماعات الذي يعدّ شرطاً ضروريّاً وغير كافّ للتَّعصُّب، ولكنَّه يتحوَّل إلى تعصُّبٍ إذا ارتبط ببعدٍ تقييميٍّ لهذه الجماعة، تقع على أحد قطبيه الأقصيين قيمة الخير بكلّ ما يندرج تحتها من صفات، وعلى القطب الآخر القيمة المضادَّة المتمثلة في الشّر وما يندرج تحتها من صفات.

وهو ما يجعل التَّعصب ضدّ الطَّائفة واقعاً مضمراً في ظروف العجز عن التَّصريح، وحرباً شعواء في ظروف مغايرة.

تلعب الأنا الأعلى (الَّتي تسعى إلى الكمال بحسب المصطلح الفرويديّ) الدَّور الأساسيّ في العنصريَّة الموجَّهة لجماعةٍ يُعتقد أنَّها أرفع شأناً، فينصبّ الحسد عليها وتمنّي زوال المميّزات والقدرات والموارد عنها.

وتستفرد الـ"هو" (الَّتي تمثّل الغرائز بالمصطلح الفرويديّ) بالسَّاحة عندما تكون العنصريَّة موجّهة إلى جماعة يعتقد أنَّها أدنى شأناً فيسقط الـ"هو" مفرزاته من ازدراءٍ واحتقارٍ وكراهيةٍ تجاهها.

ولأنَّ الأصل في علاقة الأكثريَّة السُّنيَّة بالطَّائفة العلويَّة هو الشُّعور بالأفضليَّة، فقد كان الـ"هو" نافث مشاعر الازدراء، ولكنَّ الأنا لم يكن غائباً لما سببَّته سيطرة الطَّائفة واستئثارها بالخيرات من مشاعر حسدٍ لها[1].

ومن هنا فإن اتخاذ الجرائم التي يرتكبها أبناء الطائفة العلوية ذريعةً للمطالبة بإبادتهم لا يعدو أن يكون تستّراً على هذه الحقيقة.

والمشكلة الأخرى أن ثمة أفراداً يخفون حقيقة كونهم لا مشكلة كبيرةً لهم مع داعش؛ لأنه سنّيٌّ ويرفع راية الخلافة، وهو ما يمكن تفسيره بالقاسم المشترك بين التصور السنيّ الشعبيّ وبين الأيديولوجيا الداعشية، والمتمثل في الاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة التي تجسّدها عقيدة أهل السنة من جهة، وتكفير الطوائف الأخرى وفي مقدمتها الطائفة العلوية من جهةٍ أخرى.

هاتان مشكلتان تعبّران عن غلبة الحسّ الغريزي ما قبل الوطنيّ لدى هؤلاء الأشخاص، وهما نتاج طبيعي لأحادية التفكير والاعتقاد بالتفوق الذي مصدره وهم امتلاك الحقيقة.

فلنطالب بالثأر من المجرمين!

هذا حقنا ولكننا لن نبني وطناً حراً ما لم نتخلّص من غرائزنا، ومن وهم تفوقنا.

تحتاج الديمقراطية إلى ديمقراطيين لا يتحركون في الشأن العام بوحي عقيدتهم الدينية فحسب، وإنما بقواسم مشتركة بينهم وبين أبناء وطنهم.

لا ضير إذا كنت تؤمن بأنك تمتلك العقيدة الحقة، ولكنّ هذا شأنك الخاصّ الذي لا يحق لك أن تفرضه على الآخرين، ولا ضير إذا كنت تسعى لتسويد قيم هذه العقيدة ما دام سعيك هذا في إطار الوطنية الجامعة وبالوسائل السلمية.

في أحداث حماة في الثمانينيات يعرف القاصي والداني أن عناصر من الجيش السوري من ريف دير الزور ارتكبوا جرائم بحق أهلنا في حماة لا تقل فظاعة عن جرائم أبناء الطائفة العلوية، إن لم تكن تفوقها بشاعة.

وأنّ من هؤلاء من جُنّد في سجن تدمر لممارسة أقسى أنواع التعذيب بحق المعتقلين.

وهم عربٌ سنّةٌ استغلّ النظام جهلهم وولاءهم المطلق له ليجعلهم وسائل لممارساته الهمجية.

فلنبحث بموضوعيةٍ عن المجرمين، ونقتصّ منهم بحسب ما تقضي العدالة من أيّ طائفةٍ كانوا.

داعش تنظيمٌ سنّيٌّ، وهو لا يقلّ إجراماً عن النظام وحاضنته العلوية الداعمة له.

هل تغفر له سنّيته وتعفيه من مطالبات المطالبين بالثأر؟

إحدى أهم الشروط التي وضعها منظّر التعددية الثقافية الأبرز ويل كيميلكا لبناء مجتمعاتٍ تعدديةٍ في المناطق التي خاضت شعوبها تجارب حروبٍ أهلية هو تكريس مفهوم التسامح، لأن عدم تكريسه سيفتح دفتر المحاسبة التاريخية على جدلٍ لا نهاية له. وهو مفهومٌ لا يتناقض مع ضرورة الاقتصاص من مرتكبي الجرائم الذين يدينهم القانون بأدلته القاطعة وإجراءاته المتفق عليها.


 

[1] - من مقالة "مصطلح "الطائفة الكريمة" ومفاعيله" للكاتب في موقع الأوان، وهي على الرابط: http://www.alawan.org/article14975.html