أمسيات ريف إدلب الشمالي

لليالي ريف إدلب الشمالي طعم لذيذ. بعد يوم متعب يبحث الشباب عن بعضهم. تفتتح السهرة بالكلام عن الأسعار وارتفاعها الجنوني، بدءاً بالخضار والفواكه واللحوم، ثم المواد الغذائية من السكر والشاي والبن والرز والسمن والزيت النباتي، وأخيراً الغاز والمازوت والكهرباء والماء (تحتاج العائلة المؤلفة من ست أشخاص إلى حوالي 400 دولار شهرياً). يمتد الكلام ليصل إلى المجلس المحلي الذي ينتقده الحاضرون في الغالب، ويلقون بعض النمائم عن أفراد منه أو معظمهم.

في إحدى ليالي العام الماضي اجتمعنا، عدداً من الأصدقاء، لنشاهد مباراة لكرة القدم بين فريقي ريال مدريد وبرشلونة، جرت على أرض الأخير في ملعب «الكامبانو»، وكانت مليئة بالحماس والندية، وانتهت بفوز ريال مدريد بنتيجة 2/1.

كان التصفيق والصراخ في ذروتهما. اتصل أحد الموجودين مع أصدقائه في قرية من ريف حلب الغربي، وعندما فتح الصوت لنسمع كان الهتاف والتكبير عاليين، وكان عدد منهم يطلق الرصاص في الهواء ابتهاجاً. ثم اتصل بصديق آخر له كان من مشجعي برشلونة، وهو ملتزم دينياً، فقال له: «يا شيخ، كيف تشجع هذا الكافر ’ميسي’؟»، فأجابه صديقه بكل برود: «وهل ‘كريستيانو رونالدو’ من أهل السنة والجماعة؟!».

وفي إحدى الأمسيات، وكانت من أجملها، اجتمع عدد من الأصدقاء المثقفين والناشطين السياسيين المعروفين في المنطقة. ابتدأ الكلام عن الثورة والوضع السياسي والعسكري، وانتقد الموجودون الهدن والحلول السياسية والتنازلات التي يقدمها الوفد المعارض، وفجأة شغّل أحدهم على هاتفه الجوال قصيدة «لا تصالح» للشاعر الراحل أمل دنقل. استمع الجميع بانتباه وتأثر: «لا تصالح ولو منحوك الذهب!».

كان أحدهم يعلق على كل بيت وهو يقول: «إنها إحدى أجمل قصائد الكفاح ضد التفتت والتشرذم والانهزامية والاستسلام. يجب أن ننشرها بين الناس لنرفع فيهم العزيمة والمعنويات وإرادة استمرارهم في إسقاط نظام الطغيان عبر المقاومة المسلحة».

وقال آخر: «لي رأي مختلف، العمل المسلح لا يمنع أبداً من العمل السياسي والمفاوضات، بل تقديم التنازلات البسيطة في بعض الأحيان للحصول على أهدافنا في النهاية في إقامة نظام بديل لهذه الطغمة الحاكمة».

فقاطعه أحدهم: «ألم تسمع للتو ما قاله أمل دنقل؟، سأعيد لك: لا تصالح ولو قال من مال عند الصدام... ’ما بنا طاقة لامتشاق الحسام...’ عندما يملأ الحق قلبك: تندلع النار إن تتنفس.. ولسان الخيانة يخرس. لا تصالح.. ولو قيل ما قيل من كلمات السلام... كيف تنظر في عيني امرأة.. أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟ كيف تصبح فارسها في الغرام؟ كيف ترجو غداً... لوليد ينام، وهو يكبر بين يديك بقلب منكس؟ لا تصالح.. ولا تقتسم مع من قتلوك الطعام! واروِ قلبك بالدم... واروِ التراب المقدس!».

هنا بلغ الحماس أشده، وأيده الكثيرون في هذا الاستشهاد مستحسنين كلامه، ثم سكت الجميع قليلاً ليسمحوا للأول بالرد، فقال بهدوء: «الشعر غير السياسة، في السياسة لا بد من تقديم بعض التنازلات المؤلمة. الموقف الدولي ليس لصالحنا بل لصالح نظام الطاغية، وهذا لا يعني أن نتراجع عن مطالبنا، لكن تقديم بعض التنازلات في بعض الأوقات ضروري، وإلا فقد نخسر بالحرب كل شيء مع وحشية روسيا وإيران والنظام وميليشياته وسكوت العالم عن مجازره».

فردَّ الأول: «حسناً، إن تنازلت قليلاً سيطلبون منك أن تستمر في التنازل إلى أن يأخذوا منك كل شيء. ويبدو أنك لم تفهم القصيدة، ألم تسمع الشاعر إذ يقول: «لا تصالح.. ولو قيل إن التصالح حيلة! إنه الثأر، تبهت شعلته في الضلوع... إذا ما توالت عليها الفصول، ثم تبقى يد العار مرسومة (بأصابعها الخمس) فوق الجباه الذليلة!».

وهنا تدخل أحد الحاضرين قائلاً: «في المفاوضات لا يمكن أن نحصل على كل شيء. أساساً أحد معاني التفاوض أن تتنازل عن بعض المطالب وتحصل على البعض الآخر، وهذا جوهرها. المفاوضات التي تجري في جنيف تمثل إرادة الدول الكبرى أكثر مما تمثل إرادة ثورتنا. نحن مشرذمون وبعيدون عن بعضنا، وفصائلنا العسكرية غير موحدة، وقوانا السياسية متعددة ومتعارضة، والدول التي تدعمنا -أو تدّعي دعمنا- هي في الواقع تدعم مصالحها. نحن نحصل بالسياسة ما نحققه عسكرياً على الأرض، فإذا لم تتوحد فصائلنا سنخسر كثيراً، وربما -لا سمح الله- سينتصر النظام علينا وسيكلفنا ذلك غالياً، وسيكون دم الشهداء قد ذهب هدراً».

وفي هذه اللحظة انقطعت الكهرباء فنهض الجميع مغادرين على أمل العودة لاستكمال النقاش في الأيام التالية.