أطفالٌ يمتهنون البحث بين القمامة

عدسة خليل | دير الزور

طالما كان عمل الأطفال مسألةً مستفزّةً للشعور الإنسانيّ، فمكان الطفل هو المدرسة أو الأندية والحدائق المجهّزة بالألعاب. أما أن يعمل الطفل فوق ذلك في مهنةٍ تجرح بل تحطّم طفولته، فالأمر هنا يجاوز الاكتفاء بالتعاطف الشعوريّ ليتحول إلى مشكلةٍ أخلاقيةٍ كبيرةٍ تستوجب الحل من كل ذي ضميرٍ حيّ. ولعل مهنة البحث عن موادّ صالحةٍ للبيع بين أكوام القمامة هي واحدةٌ من أشد المهن تحطيماً للطفولة. "عين المدينة" رصدت تفاصيل ألم هذه المهنة اللاإنسانية الشروط.

حمّود، 13 عاماً، من حي طب الـــجورة

يعيــــش حمـــود فيمـــا يعرف في مدينة دير الزور بطب الجورة أو الطب الغربي، وهو حيٌّ شعبيٌّ فقــــيرٌ يقـــع في ضاحية الدير الغربية. وعن عمله تحدّث: أعمل يومياً مع قريبي علاء على عربةٍ يجرّها حصانٌ في جمع البلاستيك من النفايات ساعاتٍ طويلةً في اليوم، كانت تمتدّ من ساعات الصباح الأولى وحتى غروب الشمس، قبل أن تعيش المدينة هذا الفصل بين الأحياء الذي سببه الاقتتال بين الجيشين الحر النظاميّ، أما الآن فالزمن أقل بساعتين أو ثلاث. والعمل محصورٌ بالدرجة الأولى في حيّي الجورة والقصور، بعد أن كنا نستطيع البحث عن البلاستيك وبعض الأشياء القابلة للبيع، مثل خردوات الحديد والنحاس، لمساحةٍ تمتدّ من ثلاثة إلى خمسة أحياءٍ يومياً. ورغم أن دخل الواحد منّا كان لا يتجاوز الـ 150 ليرة سورية في السابق، وهو يصل إلى ضعف هذا الرقم الآن، إلا أن المصاريف ازدادت كثيراً، وارتفعت أسعار حاجات أسرتي الكبيرة (ثمانية أبناء، ومع الأب والأم تكون الأسرة 10 أفراد)، ولا يوجد دخلٌ سوى راتب تقاعدٍ بسيطٍ لوالدي (7000 ليرة سورية) الذي كان مستخدماً وهو الآن لا يزاول أي عمل. كان أخي الكبير رحمه الله يساعدنا في العيش، ولكنه استشهد أثناء مهاجمة المخابرات لإحدى المظاهرات السلمية في حيّ الجورة، في شارع الوادي الذي اشتهر بمظاهراته.

ديرالزور

إهاناتٌ وشتائم ترافق البحث في القمامة

أكثـر ما يضايـــق حمّــــوداً هو اضطراره، وبحكم وجود العربة التي يجرّها الحصان، لأن يمرّ عبر ما يُعرف اليوم بحاجز البريد. وحول ذلك حدّثنا: إن ما أعاني منه من صعوباتٍ في العمل، من بحثٍ بين نفايات الناس، وما يرافق ذلك من شمّ الروائح الكريهة ورؤية المناظر المقرفة، لا يساوي شيئاً أمام الاحتقار والسخرية التي يمارسها هؤلاء المتوحشون عند الحاجز، فكأننا موضوعٌ للتندر.
وعند طلبنا منه ذكر بعض هذه الممارسات كان السؤال ثقيلاً عليه، لكن دافعاً ربما هو إحساسٌ بالرفض والكره لهؤلاء دفعه للإجابة عن السؤال: أولاً؛ نضطرّ إلى الوقوف على الدور مثلنا مثل السيارات التي تخضع للتفتيش والسؤال من هذا المكان، الأمر الذي يبعث الملل. فما هو عملنا وما خطورته حتى نقف هذه الوقفة؟ وثانياً؛ بمجرّد أن يأتينا الدور يبدأ برنامج التندّر، فأيّ عسكريّ يُسمح له باستخدامنا مـــــــادةً للنكتة؛ فواحـــــدٌ يقـــول: وصلت المارسيدس آخر موديل سيدي، وآخر يقول، وبصوتٍ عالٍ محاولاً تخويفنا: شو ولاه... عم تتعاملوا مع الإرهابيين؟! وفي إحدى المرّات تمّ إدخالنا إلى المعلم (كما يسمّونه)، وقال له أحد العساكر، الذي كان يمسك كلاً منــي ومن رفيقـــي من معصمــــينا: هذول الإرهابيين سيدي. فابتسم الضابط ابتسامةً ماكرةً وسألنا: شو متشتغلوا؟ فأجبناه خائفين أن تتحول اللعبة إلى جدّ، فهؤلاء لا أمان لهم. ثم أردف بالقول موجهاً كلامه لي: أنت بتحبو لسيادة الرئيس ولاه؟ فرددت وأنا أرتجف: كتير يا سيدي. الله يخليه ويحفظه. فردّ بسرعةٍ، لأنه كان مشغولاً على ما يبدو، بعبارةٍ غريبةٍ رافقتها ابتسامةٌ خبيثة: هالمرّة إعفاء. وبينما كان زوج العساكر اللذين رافقانا يخرجاننا لمتابعة سيرنا قام أحدهما بضربي على رقبتي (طيارة) كما نسميها بلهجتنا، وقال لنا وهو يقهقه: انقلعوا.