وهم الأحزاب السياسيّة والثورة في سورية

يعود تاريخ نشوء الأحزاب السياسية السورية، بمختلف تلاوينها من شيوعيةٍ وقوميةٍ وإسلامية، إلى بدايات القرن العشرين. وقد كان عمودها الأساسيّ الأيديولوجية أو العقيدة، وهوايتها السياسة. فما كان من أمرها عبر الزمن إلا أن تحنّطت فكرياً رغم ادعائها التجديد، وظلت على هامش المجتمع، تمارس السياسة عبر موروثها العقائديّ الذي "لا يخطئ".

مع اندلاع الثورة السورية سارعت الأحزاب التقليدية إلى مواكبتها من زوايا ورؤىً مختلفةٍ، تحكمها أيديولوجياتها وارتباطاتها المصلحية. كان بعض هذه الأحزاب متحفظاً في تأييده للثورة، بينما دعا بعضٌ آخر إلى دعمها والمشاركة فيها. لكن هذه المواقف بقيت، مع مرور الزمن والتداعيات السياسية الكبيرة التي رافقته، وحجم الدمار والموت، والتدخلات الخارجية؛ أقلّ من أن ترتقي إلى مستوى المشاركة والتقرير، غير مدركةٍ لطبيعة الثورات ومفاعيلها، وخاصّةً في مجتمعاتٍ تحطمت بالكامل نتيجة سطو المخابرات المستمرّ على كلّ مفاصلها، وأوّلها الحياة الحزبية والسياسية، ناهيك عن التركيبة الاجتماعية والدينية والمذهبية التي لم يكن يربطها سوى الغلاف الأمنيّ الحديديّ.

ونعرض فيما يلي محطاتٍ من مسار اثنين من أبرز أحزاب المعارضة التقليدية السورية خلال الثورة:

حزب الشعب الديمقراطيّ السوريّ (المكتب السياسيّ سابقاً)

كان من أوائل الأحزاب التي دعت الى تأييد الثورة والمشاركة فيها. لكنه، لأسبابٍ تعود إلى ذهنيته وحياته الداخلية، وظروف البلاد التي خنقت العمل السياسيّ، ناهيك عن مسار الثورة وتفرّعاته؛ لم يستطع الارتقاء إلى مستوى الفعالية في المشاركة.

بعد مؤتمره السادس 2005، الذي جرى فيه تغيير الاسم، وما رافق ذلك من تغييرٍ أيديولوجيٍّ من الماركسية اللينينية إلى الاشتراكية الديمقراطية، كان الحزب يأمل في الانتقال إلى ممارسة السياسة بشكلٍ علنيٍّ وشعبيّ، لكنه لم ينجح فيما طرحه وبقي أسير العقلية المركزية القديمة. ناهيك عن بعض الخطط لإعادة "الرفاق" السابقين، التي أقلّ ما يمكن أن يقال فيها إنها أعادت الحزب إلى الوراء وجلبت له سمعةً غير إيجابية. الأمر الذي انعكس سلباً على إعلان دمشق، المظلة الأوسع لتشكيلات المعارضة السورية والذي كان يمكن أن يلعب دوراً أكثر فعالية، لكن دور بعض التيارات التي تحكمها العقيدة/ الأيديولوجية، وعقلية القيادة التقليدية، إضافة إلى ظروف البلد السياسية، حالت دون ذلك. فبقي الإعلان دون تجديد ومراجعة خطه السياسيّ رغم كلّ ما يعصف بالبلاد. ورغم أنه من مؤسّسي المجلس الوطنيّ، والائتلاف من بعده، لكنه لم يتمكن من ممارسة الحياة السياسية الجماعية والتنظيمية بعقد مؤتمره وتداول القيادة، ففضّل البعض الانسحاب منه والبحث عن أشكالٍ وتجمعاتٍ بديلة.

وفي تشرين الثاني الماضي انعقد في عنتاب اجتماعٌ اعتبره منظّموه "المؤتمر الثاني لإعلان دمشق" في ظلّ تبادل رشقات الاتهام بين طرفي الإعلان، التي لم تكن إلا انعكاساً للخلاف داخل حزب الشعب بين جناح رياض الترك ورفاقه والجناح الآخر (القيادة المؤقتة): فؤاد إيليا ود. عبد الله تركماني وفهمي يوسف وغيرهم. والذين لم يرتق مؤتمرهم إلى الصيغة القديمة حتى في التمثيل، مكرّراً عقلية الاحتواء والاحتكار نفسها.

الاتحاد الاشتراكيّ العربيّ الديمقراطيّ (د. جمال الأتاسي)

كان موقفه متحفظاً، إلى حدٍّ ما، وغير جذريٍّ تجاه الثورة. ولربما يعود ذلك إلى خلطه بين الداخليّ والخارجيّ ودعمه السابق لتيار "المقاومة والممانعة". وأصبح هذا الحزب، برئاسة حسن عبد العظيم وقتها، أحد أبرز مؤسّسي هيئة التنسيق الوطنية.

وعقب اندلاع الثورة انشقت عن الحزب مجموعةٌ عرفت باسم التيار الشعبيّ الحرّ (التيار الشعبيّ الناصريّ سابقاً)، برئاسة د. خالد الناصر، إثر خلافاتٍ سياسيةٍ ومصلحية. وانضمّ التيار إلى التشكيلات المعارضة، كالمجلس الوطنيّ والائتلاف، ودعا إلى دعم الجيش السوريّ الحرّ. لكنه لم يستمرّ أكثر من سنتين حتى تفجّر إلى تيارين: واحدٍ بالاسم القديم نفسه، والآخر أضاف إليه لاحقة الأمانة العامة، ومن شخصياته د. محيي الدين بنانة (وزير التربية السابق في الحكومة السورية المؤقتة). وبالطريقة نفسها كانت بداية الإعلان عن الانشقاق تبادل الاتهامات بالفساد وعدم الأهلية لتمثيل الثورة.

ما تخفيه تلك الانقسامات، وترفض الحديث عنه وتغلفه بخلافاتٍ سياسيةٍ تتعلق بالثورة، وصولاً إلى اتهاماتٍ كبيرةٍ بالديكتاتورية والفساد وغيره؛ أنها كانت وما تزال أحزاباً عقائديةً بعيدةً عن العمل السياسيّ، تدور في فلك العقل الثنويّ: المؤيد لها والمعارض، وبالتالي يكون خطابها مديحاً أو هجاءً بلا تحليلٍ عقلانيٍّ لمجريات ووقائع الحاضر، إضافةً إلى أنها أحزابٌ من نوع "أحزاب القيادة" المنسوبة -إن لم يكن المملوكة- لقائدها. ناهيك عن طرق تواصلها وما تخلقه من ولاءاتٍ شخصيةٍ بعيدةٍ كلّ البعد عن مفهوم الحزب بالمعنى الحديث من جهة أنه جماعةٌ تمارس السياسة بشكلٍ حرٍّ وديمقراطيّ، يتفاعل فيها الأعضاء بالتعبير عن آرائهم بكلّ حرية، ويتداولون المراكز عبر الكفاءات. وتتجلى كلّ هذه العيوب في حالات الانشطار الواقعة.