سهيل نظام الدين
وسط ما كان شارع حسن الطه، أكثر شوارع دير الزور ازدحاماً، كان ثمة رصيفٌ نظيفٌ من درجتين؛ يمتدّ على طول واجهة محلٍّ يناقض صورة الشارع كلها. هذه فقط أوّل حكاية جاك العبد الله أو أبو عبد الله كما يعرفه الديريون. الغرباء لا يحتاجون كثيراً من الوصف للوصول إليه، فجواب السؤال عنه واحدٌ دائماً: هذاك... المحلّ الظلام. لا يتوه أحدٌ عنه؛ المكان متمرّدٌ في كلّ تفاصيله، رصيفه الخالي من زحامٍ يجتاح السوق شبراً شبراً، واجهته الخشبية الفقيرة، وزجاجها الشاحب، هدوءه الملفت، أرفف الكتب المرتبة بمنطق الاستعارة قبل البيع، غياب الكهرباء وسط صخب الإنارة المربك خارجه، الشموع الموزعة في كلّ ركنٍ ممكن، عبق الحرارة ونقص الاكسجين صيفاً، ولسعة برد الدير المتغطرسة شتاءً... وكهلٌ ستينيٌّ حادّ الملامح لا يعير اهتماماً كبيراً لتحركات الزبائن؛ فهو لا يخشى أن تسرق شيئاً لأنه سيعطيك الكتاب مجاناً إن لم ترد أن تدفع. مكتبة "الاستبداد" كما كنا نعرفها أو "الكواكبي" حسب سجلات الحكومة التي أسرعت بلمح البصر لتقطع عنه الكهرباء وتنزع العدّاد الرماديّ البائس بعد أن احتجّ على الفواتير الباهظة، وهو أمرٌ يعرف أصدقاؤه أنه جزءٌ من محاولة تطفيشٍ متسلسلة. لا شيء في ذاك المكان سيقول لك من هو هذا الرجل، عليك أن تسأل لتحصل على إجابتك، وإلا فهو أبو عبد الله. وربما ستصل إلى استنتاجٍ عجولٍ أنه شيوعيٌّ سابقٌ مع أنه في حقيقته قوميٌّ عروبيٌّ مناهضٌ لكلّ ما يمتّ إلى البعث بصلة.
لا أحد في الدير يتحدّث عن جاك باعتباره مسيحياً.. هو أبو عبد الله الديري وخلاص، وبلغة ما بعد البراميل والقصف الكيماويّ ومذابح الاسد وداعش فالرجل كان "كتلةً صلبةً نابضةً بالحياة من التطمينات" أو طمأنينةً لا تشتقّ نفسها من شروطٍ خارج وجودها.. جاك العبد الله ليس موضع سؤالٍ في دير الزور كما أن دير الزور ليست سؤالاً عنده. مكتبة الكواكبي لم تكن مجرّد مشروعٍ تجاريٍّ أو ثقافيٍّ يقاوم انجراف الناس نحو تلبية حاجاتها الأساسية في بلادٍ بات فيها ثمن الكتاب ترفاً لا يملك تسعة أعشار المجتمع سبيل الوصول إلى أعتابه. الكواكبي وثم الاستبداد كانت مشروع حياةٍ ضدّ الاستبداد نفسه في سوريا، فهي منصّة توزيعٍ مجانيٍّ أحياناً للمعرفة، ومكانٌ لعمل مرصد الكواكبي لحقوق الإنسان في سوريا، وملاذ أوراق المناشير المناهضة للنظام قبل الثورة وخلالها. ليس صعباً الاستنتاج هنا أن شخصاً مثل هذا لا تحبه المخابرات، وهي لا تحبّ أحداً في الحقيقة سوى الراسخين في المذلة. ليس كلّ الذين لا تحبهم ماكنة الإذلال الأسدية بسوء حظ جاك -البعض أسوأ حظاً بالطبع- فهو قد اختبر تقريباً كلّ وسائلهم. قطعوا رزقه مراراً، عتٌموا حياته وألقوه مع زبائنه ومحبيه في عتمةٍ شاذة، كبّلوه بديونٍ ضخمةٍ للدولة التي وزّع تفسيراتها الحقيقية على ضوء الشموع، أغلقوا مكتبته فنشر عناده على الرصيف، شوّهوا سمعته فلم تصدّق دير الزور، اعتقلوه ثلاث مرّاتٍ وعذبوه فيها كلها... ثم قتلوه.
حرب جاك بدأت مع رئيسٍ مسيحيٍّ لفرع الأمن العسكريّ أراد تحويل مسيحيّي الدير كلهم إلى مخبرين، وانتهت تحت قعقعة البراميل وافتراءات حماية الأقليات التي سحقت مدفعية الجبل كنائسها في دير الزور الثائرة. الكهل الذي طالته الثورة في سبعينات عمره المنهك فتعلّق بها كديريٍّ تعربش لتوّه إلى "عقدة الجسر" العالية وفتح ذراعيه ليحلّق حراً.. استشهد تحت التعذيب. ورّاق الدير، الناسك النزق، حليف الأرصفة وثقافة التمرّد، قتل في الظلمة.. حيث لا طاقة إلا الكراهية الخالصة.