من شبّ على النفاق شاب عليه. ومحمد حسنين هيكل، وبعد أن تجاوز الشيب إلى الخرف، لا بدّ أن يكون وفياً لخصاله في المداهنة والنفاق، وهي "المبادئ" الوحيدة التي صدق فيها الرجل طوال حياته المديدة التي جاوزت التسعين عاماً، وامتلأت بالخديعة والأكاذيب، فكان بحق أسطورةً للدجل، وأسطورةً في التقرّب من أهل السلطة والنفوذ. لينتهي به الأمر أخيراً، ومنذ اندلاع الثورة، إلى الوقوف في صفّ نظام الأسد وولاة أمره من الإيرانيين، دون أي مبرّرٍ سوى مصالحه. ولم يوفر أستاذ الصحافة العربية فرصةً من غير أن يبرّر للأسد جرائمه، بالتشكيك بالثورة بأنها صنيعة دوائر المخابرات الغربية. وردّد، وهو العالم بالدعاية للطغاة، ما تقوله وسائل إعلام النظام، فجعل اندلاع الثورة من درعا المجاورة للحدود الأردنيّة الإسرائيلية مثار تساؤلٍ عن دور المخابرات الإسرائيلية في هذه الثورة، وجعل من تدخل عصابة حزب الله في القصير أمراً ضرورياً، لوجود 40 ألف مقاتلٍ أجنبيٍّ فيها!
هذه الوقاحة في سلوك الصحفي الكبير ليست جديدةً على من ابتدأ حياته المهنية بمدح الملك فاروق والتزلف إليه، فهو من كتب ممجداً الملك في مجلة روز اليوسف عام (1944) قائلاً:
في يوم عيدك يا مولاي
هذه هي الذكــــــــرى الثامـــــــنة لجلوسك يا مولاي على عرش مصــر.. ثماني سنوات وأنت تحمل مسؤولية هذا الوطن وهذا الشعب... الناس جميعاً أضاءت عيونهم بنور الأمل والثقة وتقابلت أنظارهم فتبسموا ابتسامة حبٍّ وحنان... إنه الفاروق... إنه الفاروق دائماً... فاروق الأمس... وفاروق اليوم... وفاروق الغد... وهكذا أخذت عليك مصر كل تفكيرك، لأنك تحبها، ومصر يا مولاي تحبك.
وحين تغيّرت الأحـــــــوال وجاء العسكر بعد انقلابهم بدأ برحلة تقرّبٍ جديدةٍ مع أول ديكتاتورٍ في تاريخ العرب الحديث، ليصعد نجمه ويكون كاتب كلمات جمال عبد الناصر وقائد جوقة المطبّلين (ترأس هيكل تحرير جريدة الأهرام ابتداءً من العام 1957) لسياسات وأفعال مؤسّس دولة المخابرات، الذي زجّ بمعارضيه في السجون وعلّق رؤوسهم على المشانق، وأنكر الهزيمة المريعة مع إسرائيل في حرب 67 بعد طول تهديدٍ Fبها في الليل والنهار. وبعد أن كان هيكل الممجّد الأول لأسطورة عبد الناصر، كان أيضاً المشكّك الأول بها بعد أربعين يوماً من وفاة الأخير عام 1970، في مقالةٍ طويلةٍ باسم "عبد الناصر ليس أسطورة". ليكتب بعدها، متقرّباً من السادات، ثلاث مقالاتٍ متسلسلةٍ بعنوان "السادات وثورة التصحيح". وفيها قال، متناسياً ما كان يقوله عن عبد الناصر: "كان السادات هائلاً في هذه الساعة الحاسمة من التاريخ بأكثر مما يستطيع أن يتصور أحد.. كانت قراراته مزيجاً مدهشاً من الهدوء والحسم.. هذه المرحلة هي التي ستجعل من أنور السادات ـ بإذن الله ـ قائداً تاريخياً لشعبه وأمته، لأن القيادة التاريخية مرتبةٌ أعلى بكثيرٍ من الرئاسة مهما كان وصفها".
وبعد رحيل الســــــــادات وتسلم مبارك كان من أوائل زوّاره والمهنئين له في وفدٍ من الكتاب والصحفيين، الذين ما زال بعضهم يتذكّر كيف وقف هيكل ليطلب منهم الانصراف حرصاً على وقت الرئيس. وبعد الثورة أيّد مرسي مع حفظ خطٍ للرجعة عن تأييده له، ليكون بعد ذلك أول المدافعين عمّن انقلب عليه!
وفي زيارته الأخــــيرة إلى لبنان، زار هيكل حسن نصر الله مرتين، وزار سفير بشار في لبنان، ليحــــمل له الأخير تحيات قائده... وكيف لا يحيّيه وهو في أمسّ الحاجة إلى قلمٍ مأجورٍ وماكرٍ مثل قلم هيكل؟
مع هـيكل تجربة حياةٍ كـــــلها في جوار ودفاعاً عن السلطان.