هل هي لامبيدوزا جديدة .. لبنانيون يخاطرون بأرواحهم ليهاجروا عن طريق البحر

فاطمة محمد، شقيقة محمد المفقود في البحر، في شقة والديهم في القبة إحدى ضواحي طرابلس، في 29 سبتمبر. داليا الخميسي"

لورا ستيفان
عن جريدة اللوموند الفرنسية (الطبعة الإنكليزية)
ترجمة مأمون حلبي

منذ أمد بعيد واللبنانيون يهاجرون إلى أوربا وأماكن أخرى. لكن هذا الأمر لم يكن سابقاً كما هو عليه الحال أثناء هذه الأزمة: على متن قوارب سرية، في رحلة محفوفة بالمخاطر، متوجهين إلى قبرص.

تصعد عفاف عبد الحميد الدَرَج المبلل بالمياه الذي يفضي إلى شقة أسرتها الصغيرة في حي القبة في مدينة طرابلس، الواقعة شمال لبنان. منذ أن أصبح ابنها محمد مفقوداً في البحر، أضحت عفاف أسيرة لوعة وألم شديدين. تقول وهي تجهش بالبكاء: "أريدهم أن يعيدوه إلي، حياً أو ميتاً".

انطلق ابن السابعة والعشرين عاماً في رحلته سراً من ساحل طرابلس في 7 أيلول. كان هدفه الوصول إلى قبرص، لكن القارب الذي كان المهربون قد استأجروه ضلَّ طريقه، وعلى متنه حوالي 40 شخصاً آخرين، وعندما أتى أخيراً قارب يخص اليونيفيل (قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان) العاملة في لبنان لإنقاذ القارب التائه في أواسط شهر أيلول، لم يكن محمد موجوداً هناك.

بينما تحتضنها نسرين بحنان، وهي إحدى بناتها السبع، تقول عفاف: "لم أكن أريده أن يرحل، لكنه قال إنه حالما يصل إلى بلدٍ آخر سيكون قادراً على مساعدتنا مالياً". لقد لفظ البحر منذ ذلك الحين عدة جثث، لكنه لم يقدم أي دليل إلى الآن بخصوص ما جرى لابنها. وتشرح نسرين الأمر قائلة: "بعد أن مات الناس الذين كانوا على متن القارب، غادر محمد قاربه على أمل أن يجد مساعدة. لكن ما حدث بعد ذلك أمرٌ غير واضح. لا أعرف إلى أين أذهب من أجل العثور على أخي المفقود". 

دوافع أخيها للهجرة واضحة بالنسبة لنسرين، فعندما رحل كان قد مضى على كونه عاطلاً عن العمل 4 سنوات. كانت حياته قد أصبحت لا تطاق. تقول نسرين: "البطالة والفقر هي أشياء نعانيها منذ زمن طويل في شوارع حي القبة. لقد تخلت السلطات عن مدينة طرابلس منذ زمن بعيد. لكن ما تغير بالنسبة إلينا هو هبوط قيمة الليرة اللبنانية بشكل كبير ومفاجئ. أصبح كل شيء خارج متناول قدرتنا الشرائية".

الجحيم الذي عايشه أولئك الذين خاطروا بأرواحهم ليبحثوا عن مخرج من الفقر أتى كصدمة للبنان، الذي لديه تقليد طويل بالهجرة، لكن ليس بواسطة ما يسمى"قوارب الموت". مع ذلك أصبحت هذه الرحلات السرية على متن القوارب -من ساحل لبنان الشمالي إلى قبرص القريبة، والتي يُنظر لها كبوابة إلى أوربا- أكثر شيوعاً بكثير. والركاب في هذه المرة ما عادوا فقط سوريين يائسين، ثمة لبنانيون مهاجرون أكثر فأكثر أيضاً.

يُعتقد أنه بين أواخر آب ومنتصف أيلول حاول 18 قارباً القيام بهذه الرحلة. بعد أن حاولت السلطات القبرصية منع المهاجرين من النزول إلى شواطئها الشهر الماضي، أخذت عمليات الرحيل البحرية تتأخر، لكن هل نجحت السلطات القبرصية في إيقاف رحلات القوارب بشكل كُلي؟ هذا أمرٌ مستبعد إن أخذنا بالاعتبار أن الأزمة الاقتصادية والمالية العميقة التي يعانيها لبنان قد دفعت أكثر من نصف السكان إلى ما دون خط الفقر، وهذا بدوره قد فاقم المنافسة على المساعدات الإنسانية المحدودة المتاحة بين اللبنانيين الفقراء والعدد الكبير للسكان اللاجئين من سوريين وفلسطينيين. وما زاد في تعقيد الأمور هو الصدمة التي ما يزال الناس يشعرون بها جرَّاء التفجير المزدوج في مرفأ بيروت في بدايات شهر آب، وهو ما أعاد إحياء التوترات السياسية من جديد.

البؤس ليس غريباً عن زينب. كانت زينب مع زوجها وأولادها في نفس القارب مع محمد، ابن عمها. تقول زينب: "كنا نريد الوصول إلى قبرص لنتقدم بطلب اللجوء. سمعنا أنه بمقدورنا اختيار وجهتنا في أوربا". ابن المرأة البالغ من العمر 20 شهراً، مات أمام ناظريها في البحر. روايات الناجين تُلَمّح إلى أن المهربين قد أخذوا المؤن من الركاب. تتذكر المرأة ابنة الثلاثين عاماً الوضع في القارب: "كان لدي حليب مجفف، لكن لم يكن لدي ماء. كان ابني عطِشاً وجائعاً". أرادت زينب الاحتفاظ  بجثمان ابنها الميت قريباً منها. مات أيضاً فتى آخر يمُتُّ بقرابة لزينب أثناء عملية العبور. اليوم، يتمدد الصغير ابن زينب، في إحدى مقابر طرابلس تحت ظل الأشجار. تتناول زينب المهدئات لتساعدها على تحمل مصابها. "لقد فقدت ابني الحبيب".

ما زال جلد أصابعها متضرراً بعد 8 أيام من "الموت والخوف والجوع، والشمس الحارقة نهاراً والبرد القارس ليلاً". تُفسح زينب لغضبها بالانفجار في وجه شعورها بالخذلان والتخلي من قبل السلطات السياسية. تم إغلاق المدارس بسبب إجراءات صحية مرتبطة بفايروس كورونا، لكن زينب رأت أن بناتها الثلاث، اللواتي نجين من الغرق، مقدر عليهن الفشل حتى في محاولتهن الدراسة. تقول زينب التي ما زالت تريد الرحيل: "ما الغاية من البقاء؟ ليس من أفق في لبنان، وأسرتي لم يبقَ لديها شيء".

مهاجرٌ آخر مُنتَظَر، سبق وأن حاول الرحيل لكنه يجد نفسه وقد أعيد إلى لبنان، هو سامي عبدالله ياسين (44عاماً). إنها ليلة حارة، وهو يقيم مع أخته في جبل محسن الضاحية الفقيرة أخرى في طرابلس. كان فيما سبق يمتلك منزلاً خاصاً به، لكنه باعه قبل أن يتوجه إلى قبرص. لكن الأمر الذي لم يأخذه ياسين بالحسبان هو أن تتم إعادته إلى لبنان مع أبناء أخيه الذين كان قد سافر برفقتهم.

 وفقاً لادعاءات منظمة "هيومن رايتس ووتش"، قامت السلطات القبرصية "بإبعاد أو التخلي عن أو طرد أو إعادة". أكثر من 200 مهاجر ولاجئ من لبنان أثناء الأسبوع الأول من أيلول، وهذه السلطات مارست هذه الأفعال "بدون إعطائهم الفرصة للتقدم بطلب اللجوء".

حتى إلى ما قبل سنة من الآن، أبداً لم يكن ياسين قد فكر بالرحيل. "كنت أعيش عيشة جيدة". لكنه الآن يخطط لرحيله التالي، وهذه المرة إلى تركيا بالطائرة. يقول ياسين: "لا أرى نهاية لهذه الأزمة، وهذا ما يجعلها لا تطاق. البلد يغوص إلى حالة من الفوضى الكلية"