بلغت الحشود العسكرية في سوريا ومحيطها درجةً غير مسبوقةٍ في تاريخهما الحديث. ففي الأجواء السورية طائراتٌ حربيةٌ من مختلف الجنسيات: روسيةٌ وأميركيةٌ وإسرائيليةٌ وتركيةٌ وفرنسية، ومن المتوقع انضمام الطائرات البريطانية والألمانية إلى هذا الازدحام الجويّ. أضف إلى ذلك طيران جميع الدول المنضوية في التحالف الدوليّ ضد داعش والتي يمكن أن تشارك في العمليات الجوية في أيّ يوم، وشارك بعضها بالفعل في أوقاتٍ سابقة، كالطيران الأردنيّ والسعوديّ والإماراتيّ. وفي البحر الأبيض المتوسط، قبالة الشواطئ السورية، سفنٌ حربيةٌ أميركيةٌ وروسيةٌ وفرنسية، إضافةً إلى قطعٍ بحريةٍ أخرى في طريقها إلى المنطقة من ألمانيا والدانمارك. أما على البرّ السوريّ فمقاتلون وآلياتٌ وأسلحةٌ من جميع أمم الأرض وجنسياتها، من الميليشيات التابعة لإيران، بمختلف جنسياتها، إلى الجهاديين متعدّدي الجنسية، إلى قوّاتٍ روسيةٍ وأميركية.
بعض هذه التطوّرات العسكرية مضى عليها سنوات، وبعضها أحدث، في حين أن التعزيزات الجوية والبحرية الأكبر وصلت بعد إسقاط تركيا لطائرة السوخوي 24 الروسية في المنطقة الحدودية بين تركيا وسوريا عند جبل التركمان. حلف شمال الhttp://ayn-almadina.com/wp-admin/post.php?post=6391&action=editأطلسيّ الذي طالما كلف أمينه العام نفسه، طوال سنوات الثورة والحرب في سوريا، بمناسبةٍ وبغير مناسبة، أن يطمئن نظام دمشق الكيماويّ بالقول: "ليس لدى حلف الأطلسيّ أيّ خططٍ للتدخل العسكريّ في سوريا"، يستيقظ اليوم ليرسل تعزيزاتٍ غير مسبوقةٍ إلى المنطقة. ولا يقتصر الأمر على الشاطئ الشرقيّ للمتوسط، بل يتعدّاه إلى مناطق أخرى: فقد اجتازت سفنٌ حربيةٌ كنديةٌ وإسبانيةٌ وبرتغاليةٌ مضائق إسطنبول باتجاه البحر الأسود، في نوعٍ من الردّ على تكثيف الحضور الروسيّ في المتوسط. ومثل ذلك بالنسبة إلى حالة التأهب في السفن الحربية التابعة للناتو في بحر الشمال. بالمقابل، قرّرت روسيا إنجاز صفقة بيع صواريخ S300 لإيران، ونقل بطاريات صواريخ S400 الأكثر تطوراً إلى قواعدها الجوية في سوريا. كما قرّرت زيادة عدد طائراتها الحربية المقاتلة في سوريا إلى مئةٍ، وتزويد قسمٍ منها بصواريخ جو – جو.
لفهم أسباب هذا التحشيد المتبادل بين روسيا وإيران من جهةٍ، وحلف الأطلسيّ وحلفائه الإقليميين من جهةٍ أخرى، لا بدّ من النظر إلى ما قبل إسقاط الطائرة الروسية: أزمة اللاجئين التي تفجّرت في شهر أيلول، وتفجيرات باريس الشهر الماضي. مقابل السياسة السلبية لإدارة أوباما والتي أدّت إلى خروج المشكلة السورية عن السيطرة، ومن مفرزاتها تمدّد داعش وتفاقم مشكلة اللجوء، نشّطت روسيا وإيران لحماية حليفهما الكيماويّ في دمشق من السقوط، وصولاً إلى التدخل الروسيّ المباشر الذي أدّى إلى اختلال الموازين الدولية بصورةٍ خطيرة، ما استدعى من الطرف الآخر المسارعة إلى إعادة التوازن. وفي الميدان تجلت هذه السياسة الجديدة في تزويد فصائل من الجيش الحرّ بصواريخ التاو.
طاش صواب الروسيّ من النتائج الهزيلة لتدخله المكلف، فأخذ طيرانه يضرب أهدافاً مدنيةً أكثر من تلك العسكرية، كأسواق الخضار والأحياء السكنية في مناطق سيطرة الجيش الحرّ. أما بعد قمة العشرين التي انعقدت في أنطاليا، منتصف الشهر الماضي، فقد تحدّث وزير الخارجية الأميركيّ جون كيري بوضوحٍ عن "عمليةٍ عسكريةٍ مشتركة، أميركيةٍ – تركية، لتأمين المنطقة الحدودية بين جرابلس وإعزاز". وارتفعت، منذ ذلك الوقت، التوقعات التركية بقرب إنشاء "المنطقة الآمنة" التي طالما طالبت بها. وحرّرت فصائل مسلحةٌ مدعومةٌ من أنقرة عدداً من قرى هذه المنطقة من سيطرة داعش. جاء الرد الروسيّ على هذا التقدّم التركيّ مزدوجاً: فمن جهةٍ أعلن صالح مسلم أن المنطقة المذكورة هي جزءٌ من "روج آفا"، وأن وحدات الحماية التابعة لحزبه تستعدّ، مع حلفائها من الفصائل العربية، لتحرير جرابلس من داعش. ومن جهةٍ ثانيةٍ بدأ الطيران الروسيّ يقصف جبل التركمان، للمرّة الأولى منذ بداية التدخل الروسيّ، تغطيةً لقوّات النظام التي تحاول التقدّم هناك.
من المرجّح أن الطيران الروسيّ تعمّد الاقتراب كثيراً من الحدود التركية، في رسالةٍ سياسيةٍ إلى أنقرة مفادها رفض أيّ تمدّدٍ تركيٍّ شمال حلب والشمال السوريّ عموماً. وسبق لروسيا، منذ بداية حملتها هذه، أن وجّهت رسالةً أكثر وضوحاً إلى الأتراك حين اعتبرت "قوّات حماية الشعب" الكردية وجيش النظام وحدهما شرعيين، من وجهة نظرها، في مواجهة "الإرهاب". وتكرّرت الاختراقات الجوّية الروسية للحدود التركية عدّة مرّات.
أردوغان، الخارج من انتخابات الأول من شهر تشرين الثاني بانتصارٍ كبير، كان أمام أحد خيارين: إما الرضوخ لإرادة بوتين والخروج من سوريا بخفي حنين، أو مواجهته وإرغامه على الاعتراف بالدور التركيّ في الصراع السوريّ، وبالحصّة التركية في أيّ حلٍّ سياسيٍّ كذلك المطروح في مسار فيينا.
هل يتحوّل التوتر التركيّ – الروسيّ إلى صراعٍ ساخنٍ بين روسيا والأطلسيّ؟ هذا مستبعدٌ وفقاً لجميع المراقبين. لكن الأساطيل المحتشدة في شرقيّ المتوسط تقف فوق بحرٍ من الغاز: 453 مليار مترٍ مكعبٍ وفقاً للتقديرات!
وهو مادةٌ سريعة الاشتعال.